fbpx

الفنان عبدالباسط عبسي : عندما انتصر الفن لقضايا المرأة اليمنية الريفية

تعز/ محمد الشرعبي

دائما ما يذكر من عرفوا الفنان عبدالباسط عبسي صفة بارزة تميزه بصورة خاصة وهي تواضعه وأخلاقه الكريمة. ونحن نذكر هنا صفة أخرى يبوح لنا بها فنه، وقد ميزته منذ أن بدأ مشواره الفني في سبعينيات القرن الماضي، هي وفاؤه للبيئة الريفية التي احتضنت طفولته وفتحت حواسه على الفن في أصوات عصافيرها ومهاجل رجالها وأغاني نسائها.

واضطلع عبدالباسط عبسي، صاحب الصوت الشجي العذب، بالانتصار للمرأة الريفية المقهورة. أدرك أن مشروع الحداثة الجمهورية التي تسعى من أجلها النخب في حواضر اليمن لا يكتمل إلا بالنظر إلى أوضاع الريف؛ ولاسيما القهر والغمط الذي تتعرض له المرأة. لقد كان يمثل مع زملائها من كتاب القصيدة الشعبية المنافحة عن المرأة الريفية أصوات عذبة مؤثرة، توقظ الضمائر من سباتها.

صوت كضربة فأس في الجليد

في الأغلب كان محور كتابة الأغنية اليمنية والعربية عمومًا فيما يخص المرأة، هو الوله والحب والعشق والهيام والتغزل بجمال المرأة، أو الشكوى من هجرانها وخلاف ذلك من الأمور العاطفية البحتة.

لكن خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ظهرت في اليمن أعمال غنائية يمنية كانت بمثابة ضربة قوية في جبل الجليد المتجمد؛ فقد عالجت الوضع الاجتماعي للمرأة من منظور أوسع يأخذ في الحسبان إنسانيتها المكتملة. وحظيت تلك الأعمال بانتشار واسع، ولايزال لها جمهورها حتى يومنا هذا.

ومن تلك القضايا المشار إليها أعلاه نذكر قضيتين دارت حولهما أغان أداها الفنان القدير عبدالباسط عبسي، واتسمت في بنائها بالطابع القصصي التراجيدي:

الأولى: إجبار الفتاة على الزواج في سن مبكرة من رجل يكبرها في السن، ويكون ثريًا بدافع الفاقة والفقر؛ وقد تصبح لديه مثل الجارية التي بيعت بدون رغبة منها.

وأما الثانية فتتمثل في صعوبة الحياة التي تواجهها المرأة، وخاصة في الريف، عندما يتركها زوجها بعد العرس بأشهر قليلة من أجل العمل خارج البلاد سعيا وراء توفير متطلبات المعيشة للأسرة الواسعة. وما تلبث العروس المهجورة أن تتحول إلى عاملة منزلية لدى أسرة زوجها؛ ففوق وحشتها العاطفية لفراق زوجها تجد نفسها مكلفة بأعمال شاقة، فوق أعمال المنزل الداخلية من تنظيف وطبخ ورعاية، مثل جلب الحطب من الجبال والرعي وجلب الماء من منابعه إلى البيت، علاوة على المشاركة في الأعمال الزراعية التي تستمر مواسم طويلة. وخلالها تتحمل النساء من الأثقال ما قد يصيبها بأوجاع مزمنة.

لقد كانت تختار زوجة الابن في تلك الفترة-وما يزال الوضع قائما كما هو في بعض مناطق الريف اليمني-من أجل القيام بالمهام الشاقة المشار إليها آنفا. وإذا قصرت في ذلك بعد أن أصبحت زوجة تصير أمام نظر أسرة الزوج غير مؤهلة أن تكون زوجة لابنهم. وبالتالي في أغلب الأحيان تصبح هذه الزوجة في نظر الأسرة غير مرغوب فيها، مهما كان بينها وزوجها من حب وانسجام، ففي النهاية تصل المشاكل ذروتها وتصل في النهاية إلى الطلاق أو البقاء مع القبول بالنظرة الدونية وبحياة ملأها الاحتقار. ساد ذلك الوضع ومازال يسود في بيئات اجتماعية تكرست فيها التنشئة الاجتماعية التي تنتقص من إنسانية المرأة عبر اختزالها في ” كيان أداتي” مهمته إمتاع الرجل، والانجاب والراعية، والخدمة غير المشروطة.

بكّر مسافر فجر يوم الاثنين

على رأس هذه الأعمال الفنية المؤثرة، الأغنية الشهيرة “مسعود هجر” التي كتبها الشاعر سلطان الصريمي عام 1972 وغنّاها الفنان عبدالباسط العبسي وهي أغنية تلخص وجع المرأة التي يضطر زوجها للسفر تحت ظروف طلب العمل وتوفير لقمة العيش:

من قلة المصروف وكثرة الدين

بكّر مسافر فجر يوم الاثنين

وقت الوداع سلم وقال موّدع

لا تحزني ششقي سنة وشرجع

الاغتراب في حد ذاته لا يُمثل مشكلة وجودية للزوجة إن كان محدود المدة، لكن المشكلة الخانقة تكمن في طول غياب الزوج المغترب دون تمكنه من الحصول على الفرص التي كان يرجو أن تعود عليه وعلى أسرته بعائد يكفيهم شر الفاقة والعوز. في هذه الحالة المزرية تصبح المرأة هي المعيل لأطفالها بمزيد من العمل والكد في الحقول الزراعية، وأحيانًا القيام بتعلم الخياطة أو تربية المواشي وبيعها أو صناعة الأجبان كما هو معروف في بعض المناطق الريفية غرب مدينة تعز على سبيل المثال. وبالإضافة إلى هذه الأعباء، فغالباً ما تغيب أخبار الزوج المغترب وتنقطع مراسيله وهو الأمر الذي تستعرضه أبيات القصيدة المغناة:

شفارقك بعد الزواج بأسبوع

العين تدمع والفؤاد موجوع

شتذكر الحناء وحُمرة الخد

شتذكر الزفة واليد باليد

واليوم لا مكتوب ولا صدارة

وعود خلي كلها خسارةمرت سنين والقلب مسكن الدود

محد درى أين الحبيب موجود.

ويصل بالمرأة التي فارقها زوجها إلى مكابدة معاناتها أن تستجدي الرأفة من أسرة زوجها بنداء تكسوه نبرة الحزن والألم:

وا عمتي كيف البصر لحالي

ضاع الشباب وطالت الليالي

قوتي القليل من الشقاء مع الناس

البسل أكل وجهي وشيب الراس.

تشكي المرأة حالها باستحياء لأسرة زوجها؛ غير أن مجاهرة المرأة بمظلوميتها أو قرارها مغادرة منزل زوجها إلى بيت أهلها يعد حينها عيبًا بل وينظر إليها على أنها متمردة على العادات الاجتماعية السائدة التي تذهب إلى أن المرأة لا يحق لها أن تبحث عن حياة أخرى جديدة. فالمتوقع من المرأة أن تفني عمرها في انتظار عودة الزوج ومع التقدم في السن ستجد نفسها تندب عمرها الضائع وترثي شبابها وكيف أن الفراق نال من نظارة وجهها وقواها، وانتهى بها الحال غير قادرة على العمل فتعيش واقعًا مريرًا من العجز. هنا نجد الشاعر وبصوت الفنان عبدالباسط عبسي يترجم هذه الشكوى:

واعمتي إبني هلك

من الجوع

الحب زلج واني

مريض مفجوع

رك النضر وجرحوا السواعد

وكم شكون صبري

وكم شاجاهد

مقدرش عاد أشقي

ولا أقدر اسأب

ولا اقدر أتمهر

ولا اطحن الحب

شهرين مريض محد ظهر

يراني

يارب تسامح الذي بلاني

احرقتني لا تبكي يامحمد

الموت أفضل للفقير

وأسعد

ابوك نسي الحنا

وحمرة الخد

واني الوفاء لحدي

والموت يشهد

وصيتي يابني تكن شهاده

بأن ابوك احرمني

السعاده

لكن مسامح

قد يكون

معذور

وربما هو الأخير

مقبـــور.

بهذه الكلمات الحزينة تنهي القصيدة المغناة واقعا يمنيا مأساويا، بطلته المرأة الريفية التي حرمت من الزوج ومن السعادة، وتحولت أيامها إلى جهاد مستمر مع زوج دفعته ضائقة العيش إلى أن يعيش مغتربا تفت الغربة في عمره حتى العجز.

يا امه أبي باعني

أما قضية زواج الصغيرات إلى من هم أكبر منهم عمرا بصورة قسرية فقد تناولها فن عبدالباسط عبسي. وهنا نشير إلى أغنية شهيرة من كلمات الشاعر محمد أحمد المقطري وأداء الفنان القدير عبد الباسط عبسي مع الفنانة القديرة أمل كعدل وهي بعنوان “يمه أبي باعني”.

تشرح الأغنية على لسان الصغيرة التي زوجت غصباً عنها بزوج يكبرها عقوداً تعاطي الأهل معها كسلعة تباع، بمعنى أنها مجردة من أي رأي في تحديد مصيرها المستقبلي في الزواج. فالعرف في كثير من الأحوال يعد طلب موافقة الفتاة أو المرأة على الزواج عيباً وتجاوزاً للعادات. وهكذا تصبح الفتاة منصاعة لأوامر الأسرة بغض النظر عن رغبتها. ويشكل الفقر عنصراً أساسياً في تزويج القاصرات طمعاً في مهورهن التي تسهم في إعانة أسرهن.

أغنية “يمه ابي باعني” التي نالت صدى كبير منذ الثمانينات خاطبت الناس بلحن قريب من أغانيهم الشعبية الشجية، مثلت حالة رفض لمثل هذه الممارسات الظالمة بحق الفتيات والنساء، فهي تتناول قضيتين، أولهام زواج القاصرات وما يمثل ذلك من مشاكل صحية ونفسية للفتاة، والقضية الثانية تحويل المرأة إلى سلعة تباع لمن يمتلك المال، لشايب يخطف أحلام الفتاة ويحولها إلى جحيم نفسي لا يطاق، وهو ما يترتب عليه الكثير من المعاناة والوجع والحزن:

العمل الفني حنان اسحاق

قالت البنت يمه ظلمني

أبيواهدر شبابي لشيبه بالذهب فاز بي

واني بقلبي عصافير الهواء تختبي

تشتاق روضة صبا جنة صبيه وصبي

يمه أبي باعني يمه لدنيا العذاب

لمو لمو باعني وسيب ازهار عمري تضمأ

وتشرب سراب

واني صبيه على درب المحبه شباب

وازهار نيسان بس يمه تهدى لشاب

***إلى الجحيم “البيس” لي تبيع النفوس

تكفن الشايب الفاني باحلا عروس

وفي وجوه الفوارس ترسم ظلال العبوس

تسقي البنات النواعس يمه أمر الكوؤس

وضع المرأة وتراث يمني سابق

يقول الناقد الفني والفنان جابر على أحمد “إن المرأة عمومًا كائن يختزل مآلات المشاكل الإجتماعية، وفي المجتمعات التقليدية تتضاعف أحمال المرأة، حيث نجد أن الممنوعات المفروضة على المرأة ليس لها حصر، وهذه الممنوعات تشكل مدخلًا هامًا لمعرفة المشاكل النفسية والصحية التي تعاني منها المرأة، ومن الملاحظ أن أي مشكلة اجتماعية هي ضحيتها الأساسية”. ويضيف الأستاذ جابر علي أحمد “أن الحالة المأساوية التي تعيشها المرأة في المجتمعات التقليدية تجد تعبيرها في أشكال غنائية تزخر بها اللوحة الغنائية الشعبية، وهناك الكثير من الأعمال الغنائية الشعبية التي ناصرت الكثير من قضايا المرأة ولكنها لم تنل شهرة كبيرة؛ لأنها ظهرت في العهد الإمامي”.

ومن الموروث الغنائي في العهد الإمامي نرى أن المرأة كانت تعاني أشكالاً أخرى من الظلم مثل انتهاك حقوقهن كعاملات واستغلال جهودهن دون مقابل مجزٍ وتهديدهن بالفصل التعسفي حال الرفض وهو ما نراه في هذه الأبيات التي تلخص حواراً بين مشرفة العمل والعاملات:

المندوبة :

بنات بنات همو في عملكن

قال الشريف شيبدل بدلكن

العاملات :

لمه لمه شيبدل بدلنا

واحنا الذي هامين في عملنا

ويتابع الأستاذ جابر علي أحمد “هناك شعراء كثيرون تعاطفوا مع أحوال المرأة البائسة ونسجوا أشعارًا تلامس زوايا معينة من المعاناة، كالشاعر سعيد الشيباني، والشاعر سلطان الصريمي والشاعر، عبدالهادي خضر الذي لّحن جابر إحدى قصائده التي تشكو فيها المرأة العازبة التي تجاوز عمرها سن الزواج المتعارف عليه اجتماعياً والذي جعله المجتمع أشبه بتاريخ انتهاء صلاحية للنساء:

واباه غزاني امشيب

واباه امزواج مش عيب

ترى امبنات واباه

حياتهن نعمة

أما أنا واباه تغصني امنقمة

من امطحين لموريد

لما بدى امنجمه.

وفي هذا الموضوع نجد كذلك أن الموروث الشعبي لم يكن مقتصراً على نقل مظلومية المرأة بل كذلك صوتها المقاوم والوقوف ضد الظلم:

والله القسـم لاسـرح غريب ودرويـش

أما المحـبة بالصميـل ما اشتيـــش

نريد إنتاجا فنيا جديدا يوكب قضايا المرأة اليوم

وفي الختام يبقى هناك تساؤل عن سبب غياب أعمال غنائية تناصر قضايا المرأة يتواكب مع ما تعانيه النساء اليوم من مشاكل مختلفة؛ فلا يجب أن تبقى المرأة في الأغنية فقط مجرد موضوع للغزل والوله بل ينبغي أن يبرز صوتها المقاوم والمنادي بحقوقها وهو الأمر الذي يستدعي تساؤلاً آخر عن أسباب غياب أغنيات تكتبها وتلحنها و تغنيها النساء عن واقعهن.

نقلاً عن مجلة لمدنيةhttps://almadaniyamag.com/ar/2022/04/28/al-absi_songs_advocates-_yemeni_women/?fbclid=IwAR3n0-doDZtFGGgsTRz3fcKDAyJGqIxhnEG_2l1Y3nGyX1IiUP8ty1RCQ4c

مقالات ذات صلة