عماد زيد .. هم الوطن الواحد من منظور الذات المتشظية
صنعاء / محمد عبد الوكيل جازم
إذا كانت الحرب الدائرة في بلادنا قد استطاعت أن تغير الكثير من المعالم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلا أنها لم تستطع أن تثني الشاعر عن قول الشعر وكتابته والبوح بمشاعره؛ لأن في ذلك تعبيراً عن أمرين: إعلان الوجود بجدارة -أولاً- ثم سيرورة هذا الوجود وإعطائه المشروعية الكاملة عبر المقاومة بأدوات مختلفة… و في ذلك أيضا تعبير عن قدرة الضمير الجمعي على البقاء والنهوض بمتطلبات الأمة ومستقبلها ..
التصوف في الديوان الشعري
في خضم هذه الهموم صدر عن منتدى مجاز الأدبي الثقافي ديوان “عيناك آخر من تراك” للشاعر/ عماد زيد، وهو ديوان يحمل هم الوطن الواحد من منظور الذات المتشضية حبا وتفانيا في قالب تصوفي بديع قلَّ أن تجد له نظيرا . يحكي فيه الشاعر ما هو ذاتي برؤية جماعية؛ تقدم هموم الإنسان وحلمه وشوقه إلى ضفة آهلة بالجمال والنور والأمل.
أقدم قصيدة في الديوان تشير الى عام 2006 وهذا يعني أن الديون كتب خلال فترات متباعدة ..ما يعني أيضا: أنه حصيلة تجربة فذة استطاعت البوح بمضامين كثيرة حول وحدة الوجود الصوفية وما ترتب عليها من فيض شعوري تجاه الكون.
من يقف على قصائد الديوان ويتأمل في موضوعاتها وأفكارها ومضامينها سيجد أنها واحة للشعر الصوفي وفلسفته ومنطقه اللاشعوري ..وقد أشار العديد من علماء الأدب ونقاده إلى أهمية اللغة ومدلولاتها في نقل المعنى .وفي هذا الديوان الذي يقع بين دفتي ١٠٠صفحة و سيجد القارئ أن الشاعر تناول تجربته في قالبين شعريين: الأول قصيدة الشعر العمودي والثاني قصيده …الشعر الحر ..وفي هذا الصدد نتذكر تساؤل الشاعر عبدالعزيز المقالح في كتابه أزمة القصيدة الجديدة: ” لماذا يصر البعض كالسيدة نازك الملائكة على وصف الشعر الجديد بالحر مع أنه ليس حرا أو منفلتا؟” يبدو الديوان في اختياره لقالب الموسيقى وكأنه رد على هذا التساؤل من أن القصيدة الحرة ليست منفلته تماما لأنها تجيد التحكم بنفسها وتصير طيعة لدى الشاعر المخلص الذي يستطيع قياس ارتفاعاتها وانحناءاتها العديدة.. فالشكل العام للتكوين النصي هنا يحتفي بقالب العمود الشعري كما يحتفي بالانفتاح المحكم لهذا القالب الذي تتسلل منه قصيدة التفعيلة المرسلة ومن ذلك كله يتضح لنا كيف أن الشاعر المتمكن يستطيع التحكم بقواعد اللعبة بدراية واعية وعمق مسبوك
التصوف وخلجات النفس
و من يقف على فضاءات الديوان سوف يجد أن التيمة الرئيسية للديوان هي التصوف الذي يقوم على طهارة النفس وصفائها وتشذيبها من فخ الجسد ونتوءاته الدنيوية ..ولعلنا نلمح هذه التيمة منذ العنوان “عيناك آخر من تراك” ف المتصوف شخص يعرف جيدا أنه يراقب نفسه ويعرف جيدا أنه يتوحد معها لأنها صورة للتجلي الإلهي فالله كما يقول المتصوف:يتجلى في مخلوقاته لذا فالإنسان يعيش لحظة توحد دائمة مع الرب.. وفي هذا يقول الحلاج : “أنت من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا” .,ويقول شاعرنا في مقدمة الديوان في ما يشبه الشعر:
لعل الاستغراق في الذات
يجعلني اتأرجح بين أنا تين :
أنا الطين
وأنا الروح
ربما لتلك النفخة التي اصطفانا الله بها
سر الآدمية
وبوح الكرامة”ص5
يذهب الشاعر إلى أقصى مدى في تجربته ويعلن من هناك أنه ذهب ولن يعد ..يعيش لحظة عشق أبدية وإننا نستشف من المقطع الافتتاحي التالي أنه في لحظة الفناء العشقي في المكان الذي لا يعود منه العشاق:
يا سائلي عما تعاقب في دمي :
إني نشيج الرمل في شفة الرياح
حلم تعطب إثره درب الإياب
من الأسئلة التي تطرحها أولى قصائد الديون بشكل عام نظرية الاتصال إن جاز لنا التعبير وعلاقتها بالعقل كما هي عند ابن باجة في تصوفه الأندلسي المشرع بين التوفيق في العلاقة بين المطلق وإمكانية الاتحاد به وهو ما يرى البعض من أنه ضرب من المستحيل. ولعل الاتصال الذي يطرحه الشاعر هنا يتفق كليا مع ابن باجة القائل: إنه حليف العقل الفعال يقول الشاعر:
ليس إلا طريق هي الارض
نعبرها حيث أجسادنا آخر الخطوات إلى الموت
نتركها أثراً أطفأته المرايا
ونسمو وأجنحة النور
…
وأبقى أسأل نفسي
ليس ثمة مطلق حتى الحياة..”ص10
وهنا تتجلى في هذه القصيدة وحدة الاتصال حيث تصبح المعرفة بالمطلق اتحاد فيه “وحدة الموت / يدرك معناي، وأدركه / وأفارقني قبل حين” ص11 فالإنسان حين يدرك مفارقة العقل الجزئي تكون له السعادة والكمال. إنه في الوضع الذي يسمح له بقول ما يراه صائبا لأنه في حالة انسجام مع خالقه “فيّض الأنوار في صدري لألقاني أناك”ص14 كل قصائد الديوان المتلاحقة ماهي إلا فيوض العقل المتحد الفعال وهي المكانة التي يشرح فيها المتحد الحال الذي هو فيه وهذا ما يبدو في قصيدة “أنا كالليل”: أنا كالليل حين يقدني رجع المجرة في سديم أناك تبتدئ
القصيدة تعتريني/ فأسيل من آياتها حبراً / وأكتبني كشهقة رغوة في الحلم/ حين مدائن التكوين تطويني مآذنها زفيراً من ضواح / من فراغ /إياك أنا” ص18
في هذا الجو العرفاني تتعدد صور الكشف ويرى فيه الرائي كيف تصبح نبوة الشاعر محسوسة في مدى يصعب أن يكون في متناول العامة وإنما في الخاصة منهم ومن ذلك ما باح به محمد درويش: صدقت إني مت يوم السبت”/ قالها حيّاً /فكانتها القصيدة موعداً” ص20
إن تجربة الشاعر في الديون تمثل رؤية ذاتية تجنح إلى قول الحقيقة كما هي مجردة تحكي عن مرتبة تم التخلص فيها عن الأحكام المسبقة فيما يره الإنسان العادي تشوها يراه الشاعر جمالا وروعة في قصيدة رسالة إلى فيروز نرى الإشراق في أبهى صوره وتجلياته :
إذا ما الليل تأخذني أنامله
إلى وجعي / سأنثر فوق معطفه/ من الإشراق آياتي”ص23 هكذا يتجاوز الشاعر ذاته الكاشف إلى عالم يطل منه على الكائنات من حوله يتلمسها يتحسس شجونها ثم يطلقها سماء الهيولي وقد خطا إلى أعماقها بشغف المحب في قصيدة مهداه إلى الشاعر عبدالعزيز المقالح يجد الشاعر بغيته في الحديث عن الرؤى التي جسدها المقالح في حياتنا باعتباره محورا لرؤيتنا الجمعية ” أني ستحفر في الجدار/ وأنت من تشتاقه كف المجيء؟ تقضي القصيدة أن تراك وأنت من يهدي الصباح على يديه / روائح المعنى” ص28 .. فجر الشاعر لغته الخاصة ليحكي عن أسرار العالم والكون ومكنونات الذات فخرج إلى الموضوعات الاجتماعية دون أن ينسى معطف ابن عربي والسهر وردي والحلاج والنفري ولعله يتفق مع ابن عربي من أن الكون كله كتاب مقدس وعلينا أن نجيد قراءته بما يليق بقدرة الخالق.
في قصيدة مولد القربان يتكثف المعنى العام للديوان كتجربة صوفية عميقة يقول الشاعر
أنا من رآني في مسار الضوء
أمضي تائهاً دوني
أعانق ما تسجى في دهاليز النجوم… رجفتني الكلمات والأضواء” ص35 يتقاطع هذا المقطع مع النص القرآني حين طلب النبي موسى أن يرى وجه الله “قال ربي أرني أنظر إليك. قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني” وفي هذا المقطع يتجلى العنوان العام للتجربة النورانية للعارف.
تشترك قصائد الديون كلها بلغة تصوفية مشبعة بروح العشق والفناء.