8 سنوات حرب وئدوا براءة طفلة وسعادة أسرة
القاهرة- آية خالد
مُنذ قرابة عام بدأت العمل على تقديم الإستشارات النفسية والإرشادية للأطفال، عن طريق الإنترنت، ومن أوجع الحالات التي وصلتني طفلة لم تتجاوز ال9سنوات اسمها سُكينة” وهو اسم مستعار” كل شيء سكن حياتها عدا الفرح.
لسُكينة أخ كبير يُدعى وسيم وهي الطفلة الوحيدة لأسرتها أنجباها والداها بعد إنتظار لأكثر من 5 سنوات، عاشت أوضاع بائسة لا تتناسب مع طفلة بعمرها وكل ذنبها أنها ولدت في بلد تعشقه الحروب.
عمرها بعمر الحرب فقدت شقيقها أثناء لعبهما في حوش المنزل نتيجة لصاروخ طيران سقط جوار منزلهم، لم تجد منه سوى قدمه التي طارت لجوارها بفعل الشظايا، مرت بظروف صحية سيئة جدًا ونُقلت على إثرها لخارج اليمن للعلاج، وأصيبت بصدمة نفسية لم تتعافى منها حتى اليوم بعد مرور أربع سنوات من الحادثة.
خرجت من هذه الأزمة بأمراض مستعصية، وعندما تسألها: كيف حالك؟ ترد “حالي كبد وسكر وقلب وتبول لا إرادي، وخوف ورعب من كل الناس، ووحيدة دون وسيم، حتى رجله اللي لقيته شلوها مني” وتبدأ بالبكاء ككهل يبكي ضناه.
لم تكن تعلم سُكينة بأن القدر سيقف بوجهها للمرة الألف وهذه المرة يحرمها من الإلتحاق بالتعليم كباقي الأطفال من أمثالها، ولأسباب كثيرة أبرزها حالتها الصحية التي لا تسمح لها بالتواجد بأماكن مزدحمة؛ تجنبًا لأي عدوى قد تُصيبها، وما زالت بمرحلة العلاج. وتفاصيل أخرى نسردها في هذه القصة.
عندما أخذت إذن الأب لتناول القصة صحفيًا ونشرها مع التحفظ بالأسماء وبعض التفاصيل رد عليّ: ” نحن لسنا على مايُرام يتقطع قلبي كلما رأيت طفلتي ترسم رأس شقيقها مرمي على الأرض كما رأيناه بعد الحادث، انشريها قد تُخفف مصيبتنا مُصيبة آخرين ظنوا أنهم انتهوا”.
الظروف البيئية وتأثيرها على الطفل مستقبلًا
دعونا نتحدث في البداية عن مدى تأثر الطفل بالبيئة التي ينتمي إليها نفسيًا وجسديًا وصحيًا منذ الشهور الأولى لولادته، حتى يتجاوز المرحلتين العمريتين الأولى والثانية، فهذه المراحل تُسمى بما قبل التخطيط والتخطيط المنتظم بإتجاه واحد، فدماغ الطفل يعمل على تخزين كل الأصوات دون القدرة على التمييز بينهم سوى من ردود الفعل اللاإرادية كالضجيج مثلًا: الصوت العالي، جرس الباب، صوت التلفون، السيارة، الطائرة، ضرب النار.
فكل هذا يسبب له إزعاج وهلع، فتتكون على شكل صورة ذهنية تظهر عقباتها في المرحلة العمرية الثالثة والتي تُسمى بتحضير المدرك الشكلي، أي يستطيع تحديد الأصوات وربطها بالأشكال ويميز بينهن، فكل ما يتعرض له الطفل في المرحلتين السابقتين تتغذى عليه كل المراحل حتى يتجاوز سن المراهقة، وما يكون لديه شخصية مهزوزة كثيرة الخوف والتردد، وعدم القدرة على الحوار، وتمر عليه فترات يدخل بحالات إكتئاب عنيفة إذا تعرض لذات الظروف البيئية السابقة.
بداية ذهاب وعودة وركام
بدأت الحرب اليمنية في صنعاء في مارس 2015م ، وسُكينة لم تكمل ربيعها الأول بعد، فحظها كان أنها كانت تسكن وأسرتها بالقرب من مطار صنعاء، حيث ضربات الطيران من قبل التحالف العربي على أشد وتيرة، وفي ليلة شديدة القصف سقط سقف منزل سُكينة، فاضطروا لمغادرته إلى بيت أحد الأقارب في حي شُميلة،وظلوا هناك قرابة العام وعندما اشتد القصف على كل ضواحي صنعاء، قررت الأسرة العودة لمنزلهم.
يصف هذه اللحظات محمد عون والد سُكينة موضحًا” ذهبت لأتفقد البيت فلم أجد سوى بقايا منزل،وألعاب أطفالي مرمية بين الركام، وكأن الأشباح سكنته منذُ زمن طويل، أصلحنا المنزل وما دمره الطيران، وكأننا بنينا منزل جديد، وكان كل همي أن ألم شمل أسرتي وأحاول حمايتهم”.
مرت سنتين من الحرب وكبرت سُكينة عام وفي كل مرة كانت تسمع صوت الطائرة تُصاب بالهلع، أثر عليها هذا الخوف فأُصيبت بداية مرض فيروس الكبد، وظلت بمعاناة مع مرضها لعامين آخرين أيضًا.
حدثتنا والدة سُكينة أن وسيم وسُكينة “اعتادوا على اللعب بحوش المنزل، وعند سماعهم صوت طائرة أو ضرب رصاص يجروا بخوف للداخل ليختبئوا خلفها”.
كان وسيم فبعثروه
إلا أن هذه المرة الطائرة مرت دون صوت لينذر الأطفال بالإختباء، فلم يصلهم سوى صوت الصاروخ الذي سقط على المطار ومنزل مجاور لهم، ولم تسمع الأم عدا صوت سُكينة وسط أصوات الصواريخ تصرخ ” أنا لا أرى شيء ياماما وسيم امسح لي عيني من فضلك ” لكنها لم تجد وسيم وظلت تُنادي طويلًا دون جدوى.
تروي لنا الأم المكلومة تفاصيل الحادثة وتقول ” قفزت للحوش على طول ما قدرت أشوف الباب من الدخان والنار وأنادي أولادي ولا أحد يجيب حتى سمعتُ بكاء سُكينة وكأنها خارج المنزل تبحث عن وسيم، خرجتُ مسرعة نحو الصوت ولا مجال للرؤية فوجدتها ورأسها ينزف، وملابسها مبللة، سألتها: أين وسيم؟ ردت: لا أعلم لم أستطع رؤيته، وفي نفس الوقت جاء زوجي من الخارج يصرخ: هل أنتم بخير؟ ووجد وسيم مرمي في الشارع مغمور بدمه، فالشظايا شتت جسده للخارج، وغادرنا دون عودة”.
ما زالت ذاكرة سُكينة تتذكر كل التفاصيل ففي كل مرة كنتُ أُحادثها للاطمئنان عليها تقول لي: ” كنت أصيح أصيح وأدور بالأرض فمسكت رجل وسيم قده من غير جسمه، وأمي خرجت للشارع رجعت معاها رأسه بس وبقية جسمه كان لوحده بجهة ثانية”.
مقتل 4 أطفال يوميًا
بحسب منظمة اليونسيف فإن قرابة عشرة آلاف طفل قتلوا أو أصيبوا بجروح في اليمن منذ بدء النزاع، أي بمعدل أربعة أطفال يوميًا، بحسب إحصائية لها عام 2021م.
يُشير صادق علي واحد من جيران هذه الأسرة أنّ: ” بعد حادثة بيت عون والخوف سكن الحارة غادر الجميع المنطقة فأصبحت شبه خالية، عدا من آثار دم وسيم وبقايا المنازل، ولم نستطع حتى اليوم أن نجعل أطفالنا يتجاوزوا حادثة وسيم هذه جريمة دفع ثمنها أطفالنا وراح ضحيتها وسيم وأخته المحتجزة في المستشفى من فترة طويلة”.
غادر وسيم وغادرت روح سُكينة وبسمتها معه، فمن يوم الحادثة وهي في المستشفى وحالتها الصحية تتدهور أكثر، أُصيبت بتليف في الكبد، وظهر لها مرض السكر، بالإضافة لحالة التبول اللاإرادي نتيجة الخوف والصدمة التي تعرضت لها.
د.نهى الشامي قريبة سُكينة ومُتابعة لحالتها الصحية تُفيد: ” هذه الأسرة تجرعت مُر لو نزل على جبل لتدمر، الحالة الصحية التي تعيشها سُكينة سيئة جدًا، وفقدت النطق لفترة طويلة نتيجة لشدة صراخها ليوميين متتالين، ولم نستطع السيطرة على حالتها سوى بتنويمها”.
ترميم ماخلفته الحرب
تدهور حالة سُكينة الصحية، أربك الأبوين خوفًا أن يفقدوها بعد أخيها، وظلوا حولها ليل بنهار متظاهرين بالقوة، محرومين من أن يعيشوا حزنهم، قرر الأطباء السفر العاجل لخارج اليمن لمتابعة حالتها الصحية بشكل أفضل وبالفعل سافروا للعاصمة المصرية القاهرة.
مجيء الأسرة إلى مصر أتاح لهم فرصة للحزن أكثر، خاصة أن المشفى الذي وصلت إليه سُكينة إحتجزوها لمدة 15 يوم في العناية المشددة مانعين عنها الزيارة؛ لمراقبة حالتها.
يُشير والد سُكينة: ” هنا حسينا بموت وسيم لأول مرة نسافر من دونه، ولأول مرة يغيبوا عنا الإثنين، عشنا حالة حزن لا تطاق طيلة ال15 يوم، أما والدتهم فانهارت تمامًا وسقطت ومرت بظروف صحية سيئة، ونقلتُها للمشفى ونقلنا لها دم وتلقت الرعاية اللازمة”.
ويُضيف:” كان كل همي فترتها سُكينة، وأدعي الله ليل نهار ألا يبتليني فيها هي الأخرى فلا طاقة لي بالمزيد، خاصة أنها أتت بعد إنتظار طويل كُنا يأسنا أن يرزقنا الله بأخ أو أخت لوسيم، ولكن إرادة الله كانت أقوى ورزقنا بالأخت وأخذ الأخ والحمد لله”.
ملامح الانكسار ظاهرة على ملامح الأب وجهه شاحب والإرهاق يسكنه والخوف والقلق ملازمان له، لكنه صابر محتسب يدعي الله أن يرحم صغيره ويعافي صغيرته، أما الأم فلا حول لها ولا قوة سوى الدموع على الراحل والباقي.
انتهى اليوم ال15 وسمحوا لهم بزيارة سُكينة، وكانت حالتها تحسنت بنسبة 60% حسب قول الدكتورة نهى الشامي التي رافقت الأسرة من اليمن، فأفادت: “بدأت تتحسن صحتها تدريجيًا لكنها ستعيش بأمراض مُزمنة كالسكر، وضعف عضلة القلب، وسيكون لها وضع صحي خاص، ناهيك عن الوضع النفسي الذي يتطلب عرضها على أخصائي نفسي واستشاري مختص بالأطفال”.
قررت الأسرة الاستقرار في القاهرة عملًا بنصيحة الأطباء؛ لحاجة حالة سُكينة للمتابعة المستمرة وأي قلق أو خوف قد يسبب خطورة عليها، وبناءً على طلب الطبيب النفسي؛ لأنها تحتاج لقرابة 15 جلسة، بخلاف جلسات الاستشارات حسب والدها.
تُشير والدتها إلى أن طفلتها ستعيش بعُقدة مستمرة موضحةً: ” كلما تسمع ابنتي صوت طائرة تغيب عن الوعي وننقلها للمشفى، وطلب منا الطبيب النفسي نحاول السفر لمحافظة ثانية لتغيير جو، والحجز عبر طيران لتبدأ تخرج من حالتها، لكننا مجرد ما بدأت الطائرة تقلع أصابتها نوبة تشنجات لأول مرة تحصل لها، وظلت تصرخ حتى غابت عن الوعي”.
التعافي النسبي من الصدمات
يعلق الدكتور النفسي سالم مطر المتابع لحالة سُكينة :” أن حالة الطفلة هي نتيجة لتراكمات لأصوات الطائرات التي ظلت تسمعهن منذ الشهور الأولى لها ، وكانت النتيجة الدمار الذي حلّ بالأماكن المجاورة لها، وآخرها الحادثة التي فقدت فيها أخيها، فتشعر الآن بأنّ أي طائرة ستُعيد لها نفس الموقف وقد تسرق منها شخص آخر، وهذه حالة مرضية تُصيب حتى البالغين وكبار السن نتيجة للصدمات الشديدة”.
ويؤكد على ضرورة دمجها بأطفال آخرين مع مراعاة حالتها الصحية وستتعافى نسبيًا، وستتجاوز هذه الأعراض ، ولكن تحتاج لوقت طويل.
مرور أربع سنوات لم تكن كافية لسُكينة لتتعافي كُليًا إلا أنها بدأت تتحدث بطلاقة وتمارس هواياتها التي انحرمت منها، ولم تعش طفولة كباقي الأطفال بل طفولة متوترة ستتجرع ويلاتها حتى المشيب.
قررا والداها إلحاقها بمدرسة إلا أن الطبيب المعالج لها لم يُفضل في الوقت الحالي كونها بحاجة لرقابة دائمة واختلاطها بجو مدرسي يعني زحام ولعب وحالتها الصحية لا تسمح في الوقت الحالي ففضل الإنتظار قليلًا أو تدريسها من المنزل حسب والدها.
لكن سُكينة تتمنى الذهاب للمدرسة وأخبرتني: ” كلمي ماما يودوني المدرسة ومابأكلش حلويات ولا بتقفز كثير بجلس هادئ والله نفسي أدر س يفترض قدني بصف ثالث ولا رابع”.
الرحيل المنكسر
قبل عام تقريبًا حصل والد سًكينة على فرصة عمل في بلد أجنبي وغادروا مصر، ملتزمين بتعليمات الأطباء هنا وهناك، وتدرس من المنزل حسب والدتها.
ويؤكد الأب: ” كم هو صعب أن نغادر للأبد ونترك وسيم وحيدًا في بلدنا الذي تأكله نيران الحرب والفتنة، ولا أضمن ألا يُصيب قبره مكروه ويأذوه حتى فيه، نرحل منكسرين ناقصين موجوعين، متألمين، حتى لم نجد فرصة لنودع أهلنا هناك”.
ويُضيف: ” كم إنهارت دموعي عندما طلبت مني سُكينة أن أعود لليمن لأُحضر جثة وسيم قائلة: ” طيب يابابا ممكن تروح تجيب جثة وسيم نأخذها معانا مانسيبه وحده؟”
رديت: وسيم عن الله يابابا هو يرعاه ويهتم بجثته
أبلدتني بالرد: ” هو صح أصلًا مافيش جثة كله قطع ليت وما قبرتم رجله اللي كانت معي كنت بأخذها معي”.
يقول الأب: ” وقتها أيقنت أنت صغيرتي لن تتعافى ولو مر دهر من الزمن”.
ويُدّفعون الأطفال الثمن
سُكينة ليست الطفلة اليمنية الوحيدة التي حُرمت من طفولتها فغيرها أكثر من مليوني طفل خارج المدارس، وأكثر من 3,600 طفل مجند ضمن الجماعات المسلحة، و400,000 طفل دون الخامسة يعانون من سوء التغدية الحاد، 10,2 مليون طفل بحاجة للرعاية الصحية، 11,3 طفل بحاجة إلى مساعدات إنسانية، و8,1 طفل بحاجة إلى دعم تعليمي طارئ، و72.5% من الفتيات يتزوجن في سن مبكرة ( دون سن18)، وفقًا لإحصائية لمنظمة اليونسيف عام2021.