أن تواجه كوروناوالتنمر!

المكلا- فاطمة باوزير 
“الله يهديك يا أم ريم ليش تركتي بنتك تشتغل في المحجر، هي إلا بنت!”، 
بهذه الكلمات كانت أم الطبيبة “ريم بامهدي” تصبح وتمسي، على ثرثرة الجارات وكلامهن ووصمة مجتمع لم يصدق يوماً أن جائحة كوفيد_19 قد وصلت إلى حضرموت شرق اليمن، وهي أول محافظة يتم فيها تسجيل أول حالة إصابة، مطلع إبريل 2020.
وإذ انزاحت غمائم الصدمة عن الجميع، وأفاق الناس على انتشار المرض بينهم كانتشار النار في الهشيم، بات المريض ومن يداوي المريض يتعرضان لنبذ اجتماعي وإساءة وكأنهم أصابوا منكراً من الفعل وزورا.
ريم بامهدي طبيبة شابة تعيش في مدينة المكلا بحضرموت، للوهلة الأولى لن تصدق أن هذه الفتاة صغيرة الحجم، تمتلك قلباً شجاعاً، وإرادة قوية، وأعصاباً فولاذية، تصمت الافواه المرددة بأن المرأة قاصرة عقل ودين.
 الطبيبة ريم على صغر سنها (28 عاماً) هي المرأة الوحيدة وسط أربعة أطباء استشاريين كبار عاينوا أول حالة ظهرت في مدينة الشحر، في الوقت الذي رفض أغلب الأطباء مباشرتها –  لم تشفع لها شجاعتها وإقدامها من التعرض للتنمر والإساءة النفسية والعاطفية من أقرب الناس لها، ومن زملائها، فقط لأنها امرأة قررت أن تقدم الرعاية الصحية للمرضى في المحجر الخاص بمرضى كوروناالمستجد

المرأة الحديدية 

في ذلك اليوم العصيب العاشر من إبريل اشتبه في أول إصابة في مدينة الشحر، وكان الجميع خائف. 
جميع الأطباء في مستشفى الشحر رفضوا استقبال الحالة، وأعلنوا الإضراب الشامل إن لم يأت مكتب الصحة بساحل حضرموت ويتسلم الحالة بنفسه.
تقول ريم وهي تتذكر أيام الخوف التي عاشتها: “في ذلك اليوم وصلت من عملي الساعة الواحدة ظهراً لأتفاجأ بعد ساعة باتصال، مدير مكتب الصحة الدكتور رياض الجريري رحمه الله، يطلب مني القدوم، دون تأخر ومعي مجموعة من الأطباء الذين تطوعوا للعمل في حال ظهرت حالات كورونا المستجد في البلد، تواصلت بكل المسجلين لدي، لكن فوجئت برفضهم جميعاً الخروج ومعاينة الحالة الأولى”. 
وتضيف: “دخلت مكتب الدكتور رياض وحيدة فسألني أين الأطباء؟ قلت: لا أحد فصرخ بي قائلاً: ألم تقولي بأن قرابة 20 طبيباً سجل للعمل؟ فأرد بكل قوة: لا واحدًا منهم يرغب بالنزول ومعاينة الحالة، قال: وأنتِ مثلهم، قلت له: لا.. ألا تراني واقفة أمامك!
وتبتسم ريم وهي تقول: لم يكن لدي خيار، لقد أقسمت القسم الطبي ولن أحنث بقسمي في الوقت الذي تحتاجني فيه البلاد.
كانت ريم الأنثى الوحيدة وسط جماعات من الذكور والأطقم العسكرية التي تحركت في ذلك اليوم من المكلا إلى الشحر لمعاينة أول حالة اشتباه بكورونا المستجد في اليمن، وتصف ريم نفسها في ذلك اليوم وهي تلبس اليونيفورم الخاص بالقطاع الصحي المواجه لكورونا بـ (الشمعة المرتعشة في مهب ريح تتقاذف لهيبها)، فتارة يتحرك يميناً، وتارة أخرى شمالاً.
الخوف يملأ كل ذرات كيانها وجسدها، هي المرة الأولى التي تواجه المجهول في حياتها، وتتذكر في تلك اللحظات كل الكلام الذي سمعته في الإعلام عن الفيروس، وتتذكر كلام والدها وهو يترجاها بأن لا تذهب لمعاينة الحالة.
جميع الوفد الطبي والعسكري الذي خرج في ذلك اليوم تلمع أعينهم بخوف وترقب، فكيف لبلد أنهكه الحرب طيلة ست سنوات ويفتقر نظامه الصحي إلى أبسط المعدات الطبية، أن يواجه جائحة أرهقت العالم صحياً واقتصادياً.
تقول ريم أنه في تلك اللحظات اجتاحها ندم عارم وأخذت تلوم نفسها على المجيء، فماذا لو أصيبت بالفايروس ومرضت وماتت؟ ماذا لو نقلت الفايروس لعائلتها؟، إلا أنها تماسكت واحتفظت برباطة جأشها وباشرت المعاينة للحالة مع بقية الوفد الطبي، وبعد استكمال المعاينة أُعلن إصابة الحالة بفايروس كورونا المستجد، وأطلق عليها مدير الصحة الراحل رياض الجريري لقب “المرأة الحديدية”.
وزادت: “بعد نقل الحالة الأولى إلى محجر فلك الذي خصصته السلطة المحلية لعلاج حالات كورونا، كان الأطباء مترددون في المناوبة والعناية بالمريض، قررت في ذلك الحين أن أتشجع وأشجع من حولي فأخبرت الجميع بأني سأستلم أول مناوبة، وهنا تشجع الآخرون، وتقدمت طبيبة أخرى وطبيب، وقمنا بأول مناوبة والعناية بأول حالة مصابة بفيروس كورونا المستجد في اليمن”. 
وتشيد أحد العاملات (رفضت ذكر اسمها) في محجر فلك، بالطبيبة ريم، فهي على حد وصفها من أوائل الطبيبات اللواتي كان لهن السبق في خدمة مرضى كورونا المستجد، وتصفها بالفتاة الشجاعة، وتحييها مع زميلاتها وزملائها في العمل، فمهما حصل من صعوبات ومعوقات في العمل يجب عليهم أن يكونوا قلبا واحدا على حد تعبيرها. 
أما الدكتورة رولا باضريس مديرة الترصد الوبائي بحضرموت، فتثني على الطبيبة ريم كثيراً، إذ ترى فيها طبيبة طموحة ولديها طاقة من النشاط للعمل، تقول: “لقد تمكنت في فترة قصيرة من أن تثبت وجودها في مجال الصحة أتمنى لها بالتوفيق والنجاح”.

من رحم المعاناة 

شريحة كبيرة في المجتمع اليمني لم يكن مصدقاً بأن اليمن سجلت إصابات بحالات كورونا المستجد، وأشيع بأن الحكومة والسلطات المحلية أعلنت وجود حالات المرض لاستجلاب الدعم الخارجي ودعم المنظمات فقط، وهو الأمر الذي فاقم المشكلة وساعد في انتشار الفيروس والإصابة به.
وعاني الكثير من العملين في محجر فلك (المكان المخصص لعلاج مرضى كورونا المستجد في حضرموت) من الأذى النفسي كنتيجة لنبذ المقربين لهم خوفاً من احتمالية العدوى عن طريقهم، ومن ناحية أخرى عانوا من التنمر المجتمعي، الذين أعلنوا حالات كورونا المستجد فقط للحصول على (الدولارات) وعلاوة على ذلك فإن العاملات في المحجر كن الأكثر ضرراً ونبذاً وتعرضاً لوصمة المجتمع لا لشيء فقط لأنهن نساء.
تروي لنا ريم معاناتها مع أهلها الذين كانوا كغيرهم من الناس غير مصدقين بتسجيل حالات إصابة بكوفيد 19 في اليمن، وتقول: “الوصمة الاجتماعية للعاملين بالمحجر جعلت أخي غير متقبل لعملي في المحجر حيث كان أصدقاؤه بالخارج يعايرونه بالقول: “أختك تعمل معهم”، ويقصدون بذلك مكتب الصحة والعاملين في محجر فلك فكل ما رآني أخي يردد لي نفس الكلام: أنتِ بنت والناس تتحدث علينا”.
وتضيف وهي تتنهد: “في البداية كانت عائلتي متكتمة على عملي في المحجر الخاص بعلاج مرضى كورونا المستجد، وبعد أن عرف الناس كانت النساء يأتين إلى أمي ويسمعنها كلاماً مسموماً عني”.
وزادت: “عانينا كثيراً نحن الطبيبات العاملات في المحجر، من الوصمة الاجتماعية وكأننا ارتكبنا جرماً شنيعاً بتقديمنا لخدمة إنسانية، عرضنا حياتنا للخطر ومع ذلك لا أحد يفهم، واحدة من الطبيبات كانت مخطوبة، ولم تقدر على مصارحة خطيبها بعملها داخل المحجر خوفاً من أن يفسخ الخطوبة بسبب نظرة المجتمع.. انظري إنهم فقط يعاملونا كـ (حريم) بينما نحن كنا كالرجال تماماً في مواجهة الجائحة بل ربما كنا أشجع منهم!”. 
رشا أخت ريم، عانت من نظرات الأهل والمعارف لهم بعد أن علموا أن ريم تعمل في المحجر، وتقول أن بعض المعارف من الذين يأتون من القرى للمكوث عندهم كانوا يسألون عن سر غياب ريم فلما أخبروهم بأنها تعمل في المحجر، خافوا من المكوث معهم وكأن ريم حاضرة لتنقل لهم الفيروس هذا غير عبارات التنمر التي يطلقونها “بُنية وفي المحجر!”.
ريم أصيب بالكآبة في الفترة التي عملت بها في المحجر نظراً لكمية الوفيات التي تشاهدها يومياً في عملها حد وصفها، حيث لم يكن الأطباء على معرفة بالمرض ولا كيفية التعامل مع الحالات في بداية الأمر، ناهيك عما ما يتناقله الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأن من يدخل المحجر يخرج جثة، وأن الأطباء يعطون المرضى إبرة الرحمة لتقتلهم، “كل تلك الشائعات كانت تزيدنا كآبة” تقول ريم.

ولا تقف المعاناة عند ريم على الوصمة الاجتماعية فقط، بل تعدتها إلى نظرة الزملاء الأطباء، وتشرح لنا ريم بأن من زملاءها الأطباء خارج المحجر يطلبون منهم عدم الخروج نهائياً منه، ويمارسون عليهم عنفاً نفسياً وتنمراً وهي تظن بأن هذا العمل لا إنساني فهي بالأخير إنسان وتحتاج إلى أخذ قسط من الراحة والترفيه عن نفسها ورؤية أهلها وإلا (ستموت) على حد قولها.

تقول ريم: “ذات مرة خرجت لشراء بعض الأغراض التي تنقصنا في السكن الخاص بنا، وكنت قد خرجت من المحجر قبلها بفترة وجلست بالسكن أعقم نفسي وثيابي حتى أخرج وقد أزلت عني أي شيء يمكن أن يسبب عدوى لأي أحد، وذهبت بعدها إلى الهايبر (مول استهلاكي معروف بالمكلا)  وتفاجأت بمجموعة من الطبيبات يأشرن لي من بعيد ويصحن: أيش خرجك من المحجر روحي هناك، أنت كورونا، هنا أنا تألمت بشدة وأصابني الهم والإحباط، صحيح هو من حقهم أن يخافوا لكن أنا خرجت بعد أسبوعين من حجر نفسي بالسكن، ولم تظهر علي أية أعراض، فإذا كان الأطباء الذين نظن أنهم يعرفون كيف ينتقل الفايروس وماهي مدة الحضانة يتعاملون معنا هكذا فكيف ببقية الناس؟”.

وحتى داخل المحجر الصحي لم تسلم ريم وزميلاتها الطبيبات من الإساءة وسوء استغلال السلطة الإدارية، حيث كانت تتعرض هي وزميلاتها للتمييز في المعاملة، في تفضيل مستمر للرجل على المرأة من قبل الإدارة، وتحقير لهن بلغ إلى حد تعرض إحداهن للتحرش دون أن يتم معاقبة الفاعل على ذلك بل تم تكذيبها!

وتؤيد الطبيبة سعاد باصمد التي تعمل هي الأخرى في محجر فلك كلام ريم، أن هناك تمييز يقع عليهن أحيانا في العمل فكلمة المرأة كما تقول سعاد غير مسموعة بذات الوضوح الذي عليها كلمة الرجل.

تضيف سعاد: “لم أعاني من أي مضايقات الحمدلله، لكن هناك زميلات لي تعرضن لذلك، نحن فقط كنساء لا يتم التعامل معنا كالرجال، فالرجل خياراته مفتوحة، وكلمته مسموعة أكثر منا، على الرغم من أننا جميعا أطباء وفي مستوى تعليمي ومهني واحد”.

وفي هذا الصدد تقول المحامية والناشطة في اتحاد نساء اليمن بحضرموت علياء الحامدي أن ما تعرضت له ريم وزميلاتها داخل المحجر من إساءة تعد عنف إداري مؤسسي قائم على النوع الاجتماعي، وإن تقدمت هي وزميلاتها بشكوى رسمية للمحكمة فقد تكسب هذه القضية.

وعن إصابتها بالمرض تقول ريم: “أصبت بعدوى فايروس كورونا أنا واثنتين من زميلاتي، طلبنا من الإدارة إجازة لكنهم رفضوا فقمنا بعمل استبدال لنوباتنا لمدة أسبوعين فترة الإصابة وعزلنا أنفسنا، ثم داومنا بعد أسبوعين وأخذنا كل النوبات في تلك الفترة، بالمقابل أن واحد من الزملاء الرجال تزوج في تلك الفترة فمنحت له إجازة زواج شهراً كاملاً، من الأولى أن يأخذ إجازة، الطبيب المصاب بكورونا أم من تزوج؟”.

وبلغ إجمالي الإصابات بمرض فيروس كورونا في الكادر الطبي بساحل حضرموت (32) حالة إصابة مؤكدة من بينهم (4) حالات وفاة واحدة منها وضعت على جهاز التنفس الصناعي بمحجر فلك و (28) حالة تعافي، وذلك بحسب دائرة الترصد الوبائي بمكتب صحة ساحل حضرموت.

تكبدت ريم بامهدي عناء الإصابة بفيروس كوفيد19، وعناء العناية بالمرضى، وعناء مجتمع لا يألو جهداً لينكر كل امرأة تحاول أن تصنع من حياتها قصة إلهام، لكن ريم نحتت في الصخر، ولم تأبه إلا للقسم الذي أقسمته حين تخرجت من كلية الطب على أن تراقب الله في مهنتها، وأن تصون حياة الإنسان في السراء والضراء.

كورونا المستجد في اليمن 

ويواجه اليمن الوباء العالمي في أوضاع تتسم بالصعوبة، حيث تعصف بالبلد حرب طاحنة على مدى خمس سنوات، خلفت أضراراً اقتصادية وأزمات صحية وموجات نزوح.

وبلغ إجمالي الحالات المؤكدة في اليمن (2085) منها (606) وفاة و(1384) تعافي، بحسب اللجنة الوطنية العليا لمواجهة وباء كورونا في آخر تحديث لها بتاريخ 15/12/2020.

تم إنتاج هذه المادة كإحدى مخرجات برنامج ” الكتابة الصحفية الجيدة لقضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي في ظل جائحة كوفيد19″ الذي ينفذه مركز الدراسات والاعلام الاقتصادي بدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان UNFPA