fbpx

الغناء الصنعاني: تراث أكثر.. تجديد أقل

  • صالح البيضاني

يتكئ الغناء الصنعاني على موروث هائل من الثقافة الفنية والاجتماعية التي تزخر بها اليمن وقد حظي هذا الفن باهتمام بالغ من قبل الكثير من الباحثين في الغرب والشرق نظراً إلى تفرده بالكثير من الخصائص الفنية والموسيقية التي جعلت منه موروثاً موسيقياً عالمياً اعتبرته اليونسكو رائعة من روائع التراث العالمي وصنفته ضمن قائمة التراث الإنساني الشفهي في العالم.

يرجع تميز فن الغناء الصنعاني لوجود بنية مستقلة به تبدأ من صناعة الكلمات لأغانيه التي تعد مدرسة أدبية مستقلة بذاتها تسمى مدرسة (الشعر الحميني) وصولا إلى استخدامه لآلات موسيقية خاصة به مثل الصحن النحاسي و(القنبوس) أو (الطربي) وهو العود الصنعاني القديم الذي يتميز بصغر حجمه وأوتاره الأربعة التي يقال إنها كانت في الأصل ثلاثة أوتار ولم يضف الوتر الرابع إليها إلا لاحقا ويرجع بعض الباحثين اليمنيين تاريخ هذا العود إلى الألف الأول قبل الميلاد استنادا إلى بعض الرسومات والنقوشات السبئية.. ويصنع الطربي أو القنبوس على خلاف العود من قطعة واحدة وذراع مغطاة بجلد الماعز مرصعة بالنحاس وتنتهي بمرآة يراقب من خلالها الفنان مظهره وهندامه أثناء أدائه الأغاني.

وقد ارتبطت هذه الآلة الوترية النادرة ارتباطا وثيقا بالغناء الصنعاني حيث يمكن للعازف على هذه الآلة التقليدية، التي أوشكت على الاندثار وتم استبدالها بآلة العود، أن يؤدي حوالي إحدى عشرة نغمة من النغمات الخمس عشرة المعروفة في السلم الموسيقي.. ويعد الباحث الفرنسي “جان لامبير”، مدير المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، أحد المهتمين القلائل بالبحث في تاريخ آلة (الطربي) وأحد القلائل الذين يحبذون استخدامها في أداء الأغاني الصنعانية التي أوصله ولعه بها إلى الإقامة الدائمة في صنعاء للبحث عن جذورها وارتباطها الوثيق بتاريخ الأغنية اليمنية القديمة، ويعتبر “جان لامبير”، الذي أعد رسالته لنيل درجة الدكتوراه في الغناء الصنعاني، أن من أهم مميزات الغناء الصنعاني تفرده الإيقاعي وجمال ورقة كلماته المستمدة من الشعر الحميني إضافة إلى تقنيات أدائه المتمثلة في العود التقليدي (الطربي) والصحن النحاسي أو الحديدي الذي يعزف عليه من خلال النقر بالأصابع.

وللباحث “لامبير” كتاب هام في هذا المجال أصدره قبل سنوات وحمل عنوان “طب النفوس.. فن الغناء الصنعاني”، وهو كتاب يحمل نظرة غربية لهذا الفن الذي استهوى الكثير من الفنانيين الغربيين الذين عرف الكثير منهم بتأديته هذا الفن مع الحفاظ على أساليبه الأصيلة، وضرورة الحفاظ عليه تقتضي في نفس الوقت التحكم في أحدث التقنيات مثل التسجيل الرقمي وإقامة قاعدة معطيات على الحاسوب.

وكتاب “جان لامبير” واحد من عشرات الكتب التي بحثت في تاريخ الغناء الصنعاني والتي يقف على رأسها الكتاب الموسوعي الفريد للباحث محمد عبده غانم والموسوم بـ”شعر الغناء الصنعاني” والذي يقدم فيه غانم تعريفا للأغنية الصنعانية بالقول:”هي أغان صادرة عن صنعاء أو مستلهمة منها، وهي تعرف بما لها من مميزات موسيقية معينة تميزها عن غيرها من الأغاني اليمنية”.

لماذا لم يتطور؟

مر فن الغناء الصنعاني بالعديد من المراحل لم يشهد خلالها تطورا جوهريا باستثناء التخلي عن آلاته التقليدية كالطربي والصحن إضافة إلى بعض التغييرات في أسلوب أدائه وإيقاعاته التقليدية والتي قام بها بعض الفنانين المشهورين في الجزيرة والخليج كمحمد عبده وأبوبكر سالم في محاولة منهم لتبسيطه وجعله قابلا للاستهلاك من قبل المستمع الخليجي.

وأدى الفنان أبوبكر سالم أول أغنية صنعانية وهي “وا مغرد” باستخدام الآلات الموسيقية الحديثة، ولكن على الرغم من تلك المحاولات التي عدها البعض تشويها وليست تطويرا للغناء الصنعاني إلا أن هناك سؤالا يطرح نفسه بإلحاح وهو: لماذا لم تتطور وتزدهر الأغنية الصنعانية رغم تاريخها الطويل؟ ولماذا ظلت حبيسة بين جدران بعض بيوت صنعاء القديمة ولم يكتب لها الانتشار الذي تستحقه؟

شكل تقليدي

الشاعر والباحث علوان الجيلاني له العديد من الدراسات التي تدور حول الأغنية الصنعانية وهو يرى أن هناك العديد من الأسباب التي ساهمت في عدم تطور الأغنية الصنعانية ولكن وعلى الرغم من حفاظ هذا النوع من الغناء على شكله التقليدي وارتباطه بالشعر الحميني الذي ظهر على وجه التقريب في القرن السابع الهجري إلا أنه ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن كانت تحدث طفرات بسيطة من التطوير ترتبط عادة بالشاعر أو الملحن أو الفنان شخصياً، وبسلطته الروحية أو الدينية أو المالية أو الاجتماعية.

وقد ارتبط ذلك التحول تقريباً بعدد من الأسماء، فقد ظهر ابن شرف الدين في القرن العاشر وأحدث طورا إلى حدٍ ما، ثم ظهر العنسي في القرن الثاني عشر وقام بتطوير آخر، وفي القرن الثالث عشر ظهر الآنسي فطور الأغنية الصنعانية إلى حدٍ ما، كما فعل ذات الشيء المنشد الشهير جابر رزق في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر وقامت الثورة اليمنية في العام 1962 فأحدثت تغييراً اجتماعيا، فظهر “الآنسي” و”السمة” فطوّرا إلى حد ما، ولكن كانت كل هذه التطورات وخصوصاً التطوير الأخير على يد الأنسي وغيره، محدودة بمحدودية ثقافة الفنانين ومحدودية الشعراء الذين أمدوهم بالكلمات والألحان، ولكن الشعر لم يخرج عن الطريقة الحمينية المبيتة وهي الطريقة التي كانت دائماً تقود إلى الوقوع في أسر اللحن القديم نفسه.

ويرى الباحث الجيلاني أنه على الرغم من امتداد الأغنية الصنعانية زمنياً للقرن السابع والثامن والتاسع حتى القرن الثالث عشر إلا أنها لم تأخذ حظها في أخذ قالب أكثر حداثة يساعدها على الانتشار كما هو الحال في مصر، حيث حدث الانقلاب الكبير بظهور سيد درويش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد القصبجي وغيرهم على أنقاض الفن الذي كان سائداً في القرن الثامن عشر والتاسع عشر إلى درجة أن محمد عثمان أحد أساتذة عبده الحمولي في نهاية القرن التاسع عشر، كان ابنه عزيز عثمان في الثلاثينات والأربعينات يقدم “اسكتشات” و”منولوجات” في الأفلام تسخر من الغناء الذي كان يغنيه أبوه ويقول: “خلاص انتهى هذا الغناء، هذا هو الفارق بيننا وبينهم” يعني النهضة التي قامت من الخمسينات والستينات والسبعينات في لبنان على يد الأخوين الرحباني وفيروز، أما النهضة التي قامت في الخليج في نهاية الستينات والسبعينات والثمانينات على يد محمد عبده وطلال المداح وعبد الكريم عبد القادر فكانت قائمة على مفارقة النماذج القديمة وتأصيل فن جديد فيه خيط ضئيل من النماذج القديمة.

البنية الموسيقية

الفنان والناقد الفني والموسيقي جابر علي أحمد ينظر إلى تاريخ الأغنية الصنعانية من الجانب الموسيقي حيث يعتقد أن أبرز مشاكلها تكمن في غياب البنية الثقافية والموسيقية التي يمكن أن ينطلق منها التطور والتحديث على الرغم من مرورها بعدة مراحل شهدت فيها نوعاً من التطور كما هو الحال مع حركة إحياء الغناء التقليدي التي جرت في عدن على أيدي عدد من الفنانين التقليديين أمثال إبراهيم محمد الماس، العنتري، القعطبي، الجراش، وآخرين كانوا وقود حركة إحياء الغناء التقليدي عندما كان شمال اليمن حينها قابعاً تحت سلطات أسرة حميد الدين التي كانت تعتبر تداول الموسيقى والغناء من المحرمات.

غير أنه وبعد قيام الثورة في العام 1962م قامت طائفة من الفنانين بالاستفادة من حركة إحياء الغناء التقليدي، التي انطلقت في عدن، وبدأت تبحث عن مدخلات جديدة لتحريك البنية الغنائية للغناء في صنعاء وبالذات الموشح اليمني.

وقد كانت أبرز العوائق التي واجهت هذا الجيل من الفنانين، كما يقول الفنان والباحث جابر علي أحمد، غياب “المداميك” العلمية اللازمة وافتقار اليمن إلى بنية تحتية موسيقية فيما كانت المتغيرات السياسية تنعكس بشكل سلبي على هذه المحولات التنموية الموسيقية.

وقد ساهم عدم تكوين بنية تحتية موسيقية يمكن أن ترفد الحياة الموسيقية بكوادر جديدة في تكريس هذه الحالة من الاجترار التي تعبّر عن ركود المفهوم الجمالي الموسيقي عامة وضموره.

نقلا عن – العرب

مقالات ذات صلة