الفنان أيوب.. أغاني الأرض والوطن والحرب
تعز/ بلال الطيب
أيوب طارش العبسي، هدية السماء لبلسمة جراحاتنا، وصوت الأرض للملمة أشواقنا، وقوة الصدق لإثبات ولائنا، في أغانيه دفء وشجن، وفي حضوره تتوه المُفردات، وتتلعثم الكلمات،ويحضر اليمن.
تكتمل في تراجيعه أنوثة المرأة، وجاذبيتها، وعفتها، وتبرز في أهازيجه مَفاتن الوطن، بعد أن أجاد رسمها بالنغم، وجعل منها لوحة جميلة تُسر الناظرين، وتُبهج المُستمعين.
أيوب طارش زغرودة القلب في ملكوت الجمال، ومنبع الوفاء في قصاقيص العشاق، وقمة التضحية في حب الأرض، صنع لنا ورفيق دربه الشاعر العظيم عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) موروثًا عظيمًا، وأغاني خالدة، شحنوها بالأحاسيس والتعابير الجميلة، وجعلونا ننقاد إلى أعماق أعماقها بسهولة ويسر، ونبتهج بترديدها صباح مساء، لنكتشف مع كل لحظة تحليق جديدة، مشاهد وتفاصيل آسرة، وكأنها لم تمر علينا من قبل، ونستلهم من كل لحظة استماع خاشعة صدق التضحية، وروعة الانتماء:
هذه الأرض التي سرنا على
صهوات العز فيها وأتينا
وملكنا فوقها أقدارنا
ونواصيها فشئنا وأبينا
أبدًا لن تنتهي فيها انتصاراتنا
إلا إذا نحن انتهينا
ونستمد منها قوة امتزاجنا بهذه الأرض العظيمة بعظمتنا:
عز أرضي كله فِيّ أنا
فهوانٌ كله إن هان بعضي
غرس الشاعر الفضول في تلك الروائع كيانه، وجدّد في مُفرداتها ذاته الظامئة، وحبه الفياض للحبيبة والوطن، ومزج بينهما، فلا يكتمل حب الحبيبة إلا بحب الوطن، والعكس صحيح، ومن يخون الحبيبة يخون الوطن، والعكس أيضًا صحيح، وقال بصوت أيوب ناصحًا بني وطنه:
لا تعقوها وتبغون عطاها
لا تشحوا ثم ترجون نَداها
ودعوا فيها ثراها يرتوي
عرقًا منكم إذا شحَّت سماها
ولوجه الله دوموا سُجَّدًا
أنَّه لم يعطكم أرضًا سواها
ما أعظمها من نصيحة، وما أعظمه من وفاء، فيها تجلَّت روعة الشكر، ومعاني حب هذه الأرض التي ليس كمثلها أي أرض، وثراها لا يشبه أي تراب، إنَّه تراب المجد، والتضحية والعطاء، وكم تماهى أيوب طارش مع ذلك الإحساس الفريد وهو يُردد:
تربتي فيها تَربَّتْ أعظمي
وأتى من جودها بذلي وجودي
وبها شب مُصرِّاً حُلمي
أن أُرى فيها طليقًا من قيودي
ويدي من شهدائي ودمي
كنزت فيها ثرائي ورصيدي
ولأن هذه الأرض مُقدسة حق أن نفخر بها، ونتباهى بها بين الأمم، ونردد بنشوة عامرة مع أيوب:
يا بسالات الفداءِ.. إننا شعب فدا..
أحلامنا.. نبتت فوق قبور الشهداءِ
يا جلالات العطاءِ.. إننا شعب ندى..
أيامنا.. لم تلد غير نفوس الكرماءِ
يا رسالات السماءِ.. إننا شعب هُدى..
إسلامنا.. أزهرت فيه أماني الأنبياء
ونبادلها الوفاء، ونُعاهدها بصدق:
أنت يا أرض السماحات التي
أنفقت أرواحنا بذلًا وجُودا
إن رجفنا الساح من غاراتنا
أو عكفنا في المحاريب سجودا
لن يضيع الفجر من آفاقنا
فيك لن نرجع للّيل عبيدا
وبصورة أشمل:
ها هُنا كل ضميرٍ مؤمنٍ
أنت محرابٌ له يا وطني
وهنا أنفسنا لن تنثني
وبها ضعف الهزيل المذعن
وهنا قاماتنا لن تنحني
قامة منها بعزِّ اليمنِ
ولا يكتمل التحليق إلا بـ “رددي أيتها الدنيا نشيدي”، نشيد الأناشيد كما يحلو للبعض أنْ يسميه، تلك الأنشودة الخالدة التي فصّل لها أيوب طارش أجمل الألحان، وبث فيها الحياة، فصارت نشيد الوطن الخالد، ممثلة علامة فارقة في تاريخنا النضالي والفني معًا، وفي خاتمتها تجلَّت روح الوطنية الصادقة، وعظمة الانتماء الكبير:
عشت إيماني وحبي أمميا
ومسيري فوق دربي عربيا
وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا
«أروع ما في قصائد الفضول أنها تبدأ بالقمة، وتنتهي بالقمة، وحينما أؤديها أشعر أنها تمدني بشيء روحيٍّ، فالقصيدة عبارة عن بناء مركب مُتماسك، ليس فيها أي تكلف أو حشر للمعاني، والفضول كان يشدني إلى الطابع اليمني الأصيل، لقد صنع مني – رحمه الله – فنانًا يعرف ماذا ومتى يُغني».
هكذا قال أيوب طارش ذات لقاء عن الصانع الأول لتلك الروائع، والتي جاء صوته النقي الشجي ليبعث فيها الحياة، ويزيدها جمالًا فوق جمالها، وقوة فوق قوتها.