فتاة حررت والدها من قضبان السجن
صنعاء/ آية خالد
من رحم الحرب تُنجب اليمن يوميًا نماذج نسوية يُحتذى بهن، ويستحققن الثناء، فاليوم سنتحدث عن فتاة استطاعت إخلاء سبيل والدها بعد مدة طويلة من الاعتقال في سجون جماعة أنصار الله في صنعاء (شمالي اليمن).
أبرار عبد الكريم الإرياني- 21 سنة – البنت الكبرى لوالديها بين فتاتين- التحقت بكلية علم اجتماع بجامعة صنعاء وتُحب تخصصها، تُميل للكتابة وعادة ما تُعبر بها عن أحداث تعيشها بأسلوب سلس وسرد مدهش وألفاظ رنانة، تطمح أن تصبح مخرجة سينمائية وكاتبة سيناريوهات أفلام.
بليلة وضحاها وجدت أبرار التي لم تتجاوز ال 18 عامًا حينها، نفسها أمام مسؤولية كبيرة بين الاعتناء بأخواتها ووالدتها المريضة بعد غياب والدها، وبين متابعة أُفق القضية وملفها، واضطرت للعمل بدلًا عن والدتها، فكانت تعمل في مؤسسة المياه، هذه المواقف صنعت من أبرار امرأة حكيمة قوية متزنة.
ففي صباح 10/12/2018م كانت أبرار في منزل خالتها من فترة لتُغير جو، فهاتفته لتشكو لها من ألم حلقها، وتبادلا الحديث بكل بهجة، لكن هذه البهجة لم تستمر طويلًا، فبعد ساعات قليلة جدًا عاد زوج خالتها للمنزل، فحدث خالتها قائلًا: “أنتِ عارفة إنهم اعتقلوا عبد الكريم؟”.
لحظتها كانت أبرار بالحمام ولم يعرفوا أنها هناك وسمعت كل شيء، خرجت وسألته: ماذا؟ حاول تغيير الحديث لكن في النهاية حدثها قائلًا: ” اعتقلوا والدك من مكان عمله، بس لا تقلقِ ما فيش شيء”.
الجميع كان يحاول إخفاء الأمر عن أبرار، حتى عندما اتصلت بوالدتها حاولت الإخفاء عنها، فباشرت أبرار تسألها: ” ما أخبار أبي؟” فانفجرت باكية وتسألها ما الذي يمكن فعله؟ فكان جلّ همها أن تصل فقط لمنزلهم لا سيما أن منزل خالتها في حزيز، ويبعد بمسافة طويلة عن منزلهم، وكل همها كان في الطريق: كيف سأتصرف؟ أمي.. خواتي؟!”.
وصلت أبرار وهذه كانت أطول مسافة عبرتها في حياتها وتحكي لنا موقفها فور الوصول” طلعت البيت جري للطابق العلوي وأمي منهارة وأختي منار وصلت من المدرسة تلقت الخبر، تمالكت أمي نفسها وقتها واستعادة قواها وجمعتنا قائلة وموصية: ” الموقف صعب علينا كلنا طالت المدة أو قصرت لا بد أن نتحمل” وكأنها أرادت توصينا قبل أن تنهار”.
حاولت الأم أن تكون قوية إلا أنها فشلت، فقضت أبرار وأسرتها الفترة الأولى من الاعتقال في المستشفيات، حيث انتكست والدتها صحيًا وأُصيبت بالضغط وبعدها بالسكر، وامتنعت عن الأكل والشرب، وكانت منفعلة جدًا ومن أي كلمة وبسبب وبدون سبب تبكي وتنهار، حسب وصف أبرار، وتُضيف:” في هذه الفترة حرفيًا كانت رائحة البيت مستشفى، حتى أن الجدار امتلأ بالمحاليل المعلقة، والمنزل يعث بالعلاجات بأنواعها”.
تتمتع أبرار بعاطفة قوية وتتأثر بأفعال الآخرين حولها، لدرجة أن ردود فعل وملامح المواقف تبقى عالقة في ذهنها مدة طويلة، وغياب والدها عنها فاقم لديها هذا الشعور، في ذات الفترة مرت أبرار وأسرتها بمواقف وخيبات عديدة أفقدتهم الثقة بكثير من حولهم، أبرزهم صديقة أبرار المُقربة لها، التي اكتشفت فيما بعد أنها تسيء لها وتشتمها، وتقذفها هذا الموقف أثر بأبرار كثيرًا وأحرمها النوم لثلاثة أيام متتالية.
فقدت أبرار كما تصف جزء من روحها فترة سجن والدها؛ نتيجة وعود الافراج التي كانت تتلقاها من الجميع، رغم أنها كانت على متابعة مستمرة، وذاتية للقضية، إلا أنهم خذلوها جميعًا، وتركوها لا حول لها ولا قوة عدا من الدعاء والبكاء.
وتوضح” في فترة كنت متأملة جدًا بخروجه فاتصلت بأحد الأشخاص حسب وعده لي وأثناء الحديث لم أتمالك نفسي من التردد والخيبة الذي أوصلوني له فانفجرت باكية بطريقة لم أبكيها طوال حياتي، هذه المواقف تفقدك شيء من روحك إلى جانب روحك المعتقلة الممثلة بوالدك”.
لم تستسلم أبرار رغم كل الخيبات التي مررت بهن إلا أنها تصف ذلك بحكمة: ” كل خيبه تُكسبك قوة وتعلمك دروس كثيرة، فمن أول يوم أُعتقل فيه والدي وتخاذل الكثير ممن حولنا بعض من الأهل وأصدقاءه لدرجة التهرب مننا هذه خيبات علمتني أعتمد على ذاتي”.
” كل خيبه تُكسبك قوة وتعلمك دروس كثيرة، فمن أول يوم أُعتقل فيه والدي وتخاذل الكثير ممن حولنا بعض من الأهل وأصدقاءه لدرجة التهرب مننا هذه خيبات علمتني أعتمد على ذاتي”.
تصف أبرار تلك المرحلة قائلة: “مرت الأيام بطيئة جدًا فنحن متعودين على أبي كثيرًا بكل التفاصيل واعتدنا على استيقاظه صباحًا على أغاني فيروز أو ترديد أشعار محدود درويش هذه عادته الصباحية، مرافقته لنا للمدارس، ومذاكرته لنا، ووجوده عامل أساسي طوال اليوم، والغياب المفاجئ له كان فقدان، خاصة بالنسبة لي كنت آخر مرة لقيته فيها قبل أسبوع فراودتني مشاعر ندم ليتني لم أذهب لبيت خالتي ليتني رأيته قبل الاعتقال”.
مناسبات كثيرة انحرمت منها هذه الأسرة بسب غياب ربها من حفلات تخرج، أو أعياد ميلاد، حاولت أبرار تغطي مكان والدها إلا أنها عجزت، فكل يوم كان يمر كان يمر حزين كئيب، حتى أن أبرار أجرت في تلك الفترة عملية استئصال اللوزتين واستيقظت تبحث عن والدها.
حاولت أبرار أن تتمالك نفسها كثيرًا وتبقى قوية إلا أن هذا التماسك كلفها الكثير فيما بعد فقبل خروج والدها بفترة تعرضت لنوبات تشنجية نتيجة ارتفاع مفاجئ بالضغط بسبب الضغوطات وكانت ترتاد المستشفى باستمرار.
وتوضح ذلك قائلة: ” أنا لم أنهار في البداية انشغلت بتحمل المسؤولية، فبعد سنة تقريبًا أصبت بأرق شديد يستمر لخمسة أيام واستخدمت أدوية وأدمنت عليهن، وبعدها اضطررت لدخول مركز الإرشاد الأسري للعلاج لمدة نصف شهر وهناك تعرفت على ناس أصبحوا نعمة لي، وهذه التجربة صقلت شخصيتي كثيرًا وعلمتني”.
لم أنهار في البداية انشغلت بتحمل المسؤولية، فبعد سنة تقريبًا أصبت بأرق شديد يستمر لخمسة أيام واستخدمت أدوية وأدمنت عليهن، وبعدها اضطررت لدخول مركز الإرشاد الأسري للعلاج لمدة نصف شهر وهناك تعرفت على ناس أصبحوا نعمة لي، وهذه التجربة صقلت شخصيتي كثيرًا وعلمتني”.
بذلت أبرار قصارى جهدها لتُخرج والدها من المعتقل وتوضح ذلك قائلة: “لم تكون جهود فردية كل عملي كان نشر منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي ومتابعات مستمرة، كنتُ في حالة دفاع مستمرة عن نفسي ووالدي وأخواتي وأمي، تعرضت للاستغلال والمضايقات ومحاولات عديدة كانوا يحاولوا استغلال موقفي وحاجتي لأبي ولسنده، بالإضافة لأن الزيارات لأبي كانت تتطلب جهد للحصول على تصريح الزيارة وحقيقة كان حولي كثير يساندوني ويساعدونني من الأهل والأصدقاء”.
هم يضحك وهم يبكي
كثيرة هي الوعود التي تلقتها الأسرة بالإفراج، ففي الصفقة الأولى أخرجوا حوالي ألف أسير، وكانت الأسرة تُشاهد الصور منتظرين صورة أباهم بكل ثقة، وتحدثنا أبرار وهي تبتسم قائلة: ” بقينا نتحدث لو خرج كيف سيصل للبيت ولم يملك نقود يعود بها للمنزل؟ هل سيعود مشي؟! ونتحدث ونضحك، وعندما لم نجد صورته بكينا حزنًا”.
ذكرى سيئة
من ذاكرة أبرار روت لنا خرجت باكرًا وكنت أحمل باستمرار تلك الفترة نقاب في شنطتي للزيارات وهكذا، وفي ذلك اليوم ذهبت لمحل في منطقة بعيدة في سعوان، وفي طريق عودتي كانت الساعة الحادية عشرة وخمسة عشر دقيقة وأنا عالقة في الزحمة بسيارتي، وقتها أتلقى اتصال من أختي منار “لو لم يخرج أبي أنتِ السبب تأخرتِ” وأمي تتصل أيضًا وتحدثني الوقت ليس بصالحنا المحامية تطلب مني إعادة الأوراق بسرعة وأنني سبب التأخير في الإفراج، أقلقوني وحملوني الذنب وويهزؤني بشدة، وكأنني مهملة للوضع ولم يقدروا وضعي”.
وتضيف الإرياني: “اضطررت أوقف جنب أصحاب دراجات نارية “متورات” كانوا أكثر من 12 شخص وأخذت أتامل ملامحهم أرى الأكثر إحترامًا فاخترت واحد منهم يبان عليه الاحترام فطلبت منه يلحقني، لحقني إلى عند محطة وركنت السيارة ولبست النقاب وطلعت على الموتور، وطلبت منه توصيلي بعشر دقائق”.
الظريف في الأمر كنت أرتدي حذاء جديد سعره60$ ووضعت رجلي على شكمان الدراجة بجهل أنه يسخن بشدة، ولم أنتبه كان كل همي الوصول بسرعة، وعند وصولي للمحامية، شعرت أن رجلي تمشي على الأرض فاكتشفت أن الحذاء حرقت أرضيته، وكنا نضحك أنا وسائق الموتور”.
عرس الخروج كيفما تسرده أبرار
في العاشر من مايو عام 2020م، جاءنا اتصال من أحد أصدقاء أبي قال لها: ” هل العشاء جاهز؟ نحن قادمين” أمي لم تصدق وتبكي ونحن بشجن ماذا ماذا؟ وجاءت البشارة من قلبها وبريق عينيها: أبوكن خرج”.
ونشرت أبرار على الفيس بوك يومها “” أبي خرج يا جماعه، أبي بالطريق للبيت” ألحقت المنشور بقلوب سوداء ودموع.
تضيف أبرار” لم يصل أبي يومها للبيت على طول فنتيجة منشوري على الفيس بوك استقبلوه أهل الحارة وأصحابه، وكانوا قد وصلوا لمنزلنا قبل أبي وكانت الزغاريد تملأ الحارة والألعاب النارية وفرحة الناس صغارًا وكبار من الأسرة وخارجها، وكأنه حفل أو زفاف، وفجأة تتعالى أصوات بكاء بجهاشة وكأن هناك أطفال يبكوا وهو في الحقيقة أنه أبي وأصدقائه المقربين الذين لم يتركونا لحظة منذ إعتقاله”.
وتقول أبرار ما إن دخل أبي للبيت حتى تعالت الزغاريد أكثر فجري أبي وحضني وأخواتي الثلاث مرة واحدة، وحاولنا جاهدين ألا نذرف دموعنا إلا أن دموعه سبقتنا فبكينا لبكاه”.
وعن مواقف ذلك اليوم توضح “أكثر موقف مؤثر يومها عندما دخل أبي يسلم على أمي انهاروا وظلوا يبكوا طويلًا حتى جلسوا من التعب، هذه المواقف صعب تُنسى فأنا أذكر كل لحظة في ذلك اليوم وكل الوجوه بملامحها، وكل الأشخاص”.
أكثر موقف مؤثر يومها عندما دخل أبي يسلم على أمي انهاروا وظلوا يبكوا طويلًا حتى جلسوا من التعب، هذه المواقف صعب تُنسى فأنا أذكر كل لحظة في ذلك اليوم وكل الوجوه بملامحها، وكل الأشخاص”.
أبرار اليوم
بفضل كل هذا أنا أبرار اليوم سعيدة متصالحة مع نفسي أشعر بحب وبسلام ذاتي وأستطيع الوصل لأي شيء أريده، وأستطيع الدفاع عن أي شخص مظلوم ليس فقط عن أبي، ويمكنني أوصل أصوات كل الناس، مرحلة إعتقال أبي حررتني من مواقف كثيرة، قوتني وجعلتني أكبر بعين نفسي وعين الآخرين، كسرت حواجز كثيرة لم أتوقع أني أتخطاها وأكسرها بيوم وكسرتها ووصلت وما زلت في طريقي لكثير من طموحاتي وأحلامي المنشودة”.
وتضيف أبرار” يكفيني فخر أني أبي بكل ما يلتقي بحد يقولون له أبرار هي من أخرجتك من المعتقل ويكون رد أبي دومًا ابنتي هي من أخرجتني وحررتني من السجن”.
توجه أبرار رسالة لكل النساء اليمنيات” إحنا كلنا قادرات نصنع التغيير وقادرات ندافع عن حقوقنا، ولو بالشكل البسيط الأهم ألا تسكتِ، والكون كله والعالم كله سيعود يسمعك ويغير معك، فأينما كنتِ تحدثِ وستجدين السند والمناصر فالصمت عار “.
“تم نشر هذه المادة بدعم من” من JDH JHR صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا”.