fbpx

نسيم.. بين الحاجة للعمل وموقف المجتمع المحيط

القاهرة/ آية خالد

“يمنيين يجوا يقدموا لي عروض أروح معهم شققهم، واللي يقول تعالي اسكني معي”، هكذا استهلت نسيم سعيد، 27 عامًا، وهو اسم مستعار، حديثها لـ “هودج” مُلخصة الواقع اليومي لحياتها العملية.

تنتمي نسيم إلى أسرة من يافع، وهي منطقة تابعة لمحافظة لحج، وهي من مواليد محافظة صنعاء. أرملة وأم لطفلة لم تتجاوز الرابعة. حاصلة على بكالوريوس اقتصاد دولي من جامعة عدن، وتقطن، حاليًا، في العاصمة المصرية “القاهرة” مع طفلتها ووالدتها وإخوتها، كما أنها تعمل نادلة (مُباشِرة) لأحد المطاعم اليمنية؛ لتتمكن من إعالة أسرتها في بلد المهجر.

قضت نسيم المرحلة الأولى من طفولتها مع جدتها (أم والدها)، “جدتي كانت مسيطِرة؛ تأخذ من أمي أطفالها بالقوة؛ ليعيشوا معها منذ وقت مبكر. عشت معها حياة قاسية جدًا في بيت يميز بين الذكر والأنثى، ويرى في الفتاة عار والولد سند. تعرضت للضرب كثيرًا، وحُرمنا من حنان الأم والأب”.

“أسمع كثيرًا من الكلمات الجارحة التي لم أجدها سوى في المطاعم اليمنية”

تقول نسيم: “اكتشفت بأن جدتي ليست أمي، بل أمي امرأة أخرى تعيش مع أبي، وكان عمري 9 سنوات حينما انتقلنا للعيش معهم في صنعاء”.

“اكتشفت بأن جدتي ليست أمي، بل أمي امرأة أخرى تعيش مع أبي، وكان عمري 9 سنوات حينما انتقلنا للعيش معهم في صنعاء”

الحظ لم يُحالف نسيم وإخوتها كثيرًا؛ فبعد فترة بسيطة، انفصل والديها، وعاد الأطفال مع والدهم إلى منزل جدتهم، وتزوجت أمهم، ثم انتقلوا للعيش معها في صنعاء مرة أخرى.

“البعض يحاول استغلالها، أو النَّيل منها بألفاظ مبتذلة، وكأنّها ارتكبت جريمة بعملها في المطعم”

تزوجت نسيم من صديق زوج والدتها. عاشت في صنعاء معتقدة بأنّها ستبدأ حياة مستقرة، وكانت، بين فترة وأخرى، تسافر إلى محافظة عدن، جنوب اليمن؛ لحضور اختباراتها الجامعية، كطالبة نظام انتساب، تُفيد: “كان ببالي أنّه لازم أتزوج قبل أن أموت في الحرب، وحمَلت وأجهضت عدد من المرات. مرة، قبل موعد ولادتي، تعرضت لخيانة من زوجي، ولمّا عرفت، مدَّ يده عليّ وضربني. انتظرت حتى ولَدت، ثم تركت المنزل”، وتضيف “ذهبت إلى منزل والدتي، وكان يأتي ويهددنا بالسلاح؛ لو لم أرجع له سيقتلني، ورفض أن يطلقني”.

في اللحظة الأخيرة

قررت نسيم إخراج شهادة ميلاد جديدة لابنتها، ونسبتها لأخيها؛ لتقطع لها جواز سفر، وتأخذها معها خارج اليمن، “في اللحظة الأخيرة ليّ في المطار، كان زوجي يعتقد أنني عند والدي في عدن. اتصل بي ليعتذر، ويطلب مني الرجوع إليه. ترددت وقتها، وخفت من ردة فعله، لكنّي تغلبت على ذلك، وسافرت مع أختي وابنتي”.

أول عمل

تقول نسيم: “وصلت مصر. كان عليَّ، بداية، البحث عن عمل، فوجدت عملًا في مطعم يمني، وكانت هذه المرة الأولى التي أخوض فيها تجربة العمل”.

وتوضح: “انتابني الفرح على الرغم من مأساتي، لكنني فشلت في تغطية مصاريف ابنتي؛ كون الراتب لا يتجاوز الـ 150$؛ فعادت أختي وابنتي لليمن حيث أمي، ولمّا عرف زوجي بما حصل، ظلَّ يهدد أمي بأنّه سيأخذ بنتي؛ فاضطررت للعودة لأجلها”.

أين بابا؟

لم تجد نسيم سببًا مقنعًا للعودة إلى زوجها، كما تقول؛ فقررت العودة رفقة ابنتها إلى مصر متمسكة بقرارها ومواصلتها العمل.

وفي أوقات الدوام، كانت تترك ابنتها حينًا في حضانة، وحينًا آخر مع زملائها في المطعم.

أثناء عملها في القاهرة، أتاها خبر زواج زوجها، ثم بعده بشهرين، وصلها خبر وفاته نتيجة لإصابته بتليف في الكبد، بحسب نسيم.

تصمت نسيم، وتواصل بعد زفرة دامعة: “لم أكن أعلم أن موته سيحزنني إلى هذا الحد! ندمت كثيرًا. مرات كثيرة أقول: ليتني عُدتُ له بعد اعتذاره، على الأقل؛ لتعيش ابنتنا في أحضان والديها معًا”، وتضيف بعد صمت آخر: “تألمت لدرجة لم أستطع فيها الإجابة على سؤال ابنتي: أين بابا؟”.

تحرش

تعمل نسيم في بلد يتواجد فيه قرابة مليون يمني، حسب إحصائية لمبادرة “خذ بيدي من حقي أن أتعلم”، قدموا من مجتمع بدأ بعض أفراده تقبل عمل المرأة وخروجها “بالعافية”؛ فكيف سينظرون إلى عمل امرأة في مطعم عام؟ وفي بلد آخر غير اليمن؟

تقول نسيم موضحة بعض أنواع التحرش الذي تتعرض له أثناء العمل: “اللي يكتب لي رقمه، واللي يحاول التحرش باللمس، إضافة إلى طلبات قضاء ليالي بمقابل مادي كبير. تصرفات تسبب لي ضغوطًا نفسية كثيرة”.

“صدمات الطفولة التي تحدث لها أثر كبير في بلورة شخصية الطفل، وفهمه، وتقديره لذاته”

عملت نسيم في أكثر من مطعم في القاهرة، معظمها مطاعم يمنية، كما دفعها انخفاض مستوى الدخل للعمل ساعات إضافية، لا سيما بعد أن تطلقت والدتها من زوجها، وانتقلت للعيش معها في القاهرة رفقة إخوتها، بحسب نسيم.

استنقاص

تنظر الناشطة مريم السلمي إلى العمل كمُباشِرة في بلد خارج اليمن بأنّه مجرد عمل عادي، لكنّ نظرة بعض أفراد المجتمع اليمني لها، سواء كانوا في الداخل، أو الخارج، “نظرة استنقاص وعار”، وتفيد: “البعض يحاول استغلالها، أو النَّيل منها بألفاظ مبتذلة، وكأنّها ارتكبت جريمة بعملها في المطعم”.

نظرة المجتمع

تقول نسيم بمرارة: “من أصعب المواقف اللي أتعرض لها من بعض الزبائن اليمنيين (نساءً ورجالًا) نظرة الاستحقار؛ يحسسونك بأنّك شغَّالة عندهم، ويرفعون أصواتهم عليك: يا خدامة، وأيش مهمتك هنا! أسمع كثيرًا من الكلمات الجارحة التي لم أجدها سوى في المطاعم اليمنية”.

غادرت نسيم اليمن العام 2018م، ولم تتغير حياتها، كثيرًا، سوى أنّها أصبحت معتمدة على ذاتها، ومسؤولة عن أسرة كبيرة، ومثلما تواجه تلك النظرة الدونية من قبل البعض، إلا أنّها، كما تقول، اكتسبت محبة واحترام كثير من الناس بأخلاقها الحميدة، وحبِّها لعملها.

شبح الماضي ما يزال مخيمًا على نسيم التي عاشت طفولتها في بيئة منغلقة بمنزل جدتها؛ ما جعلها “غير قادرة على تكوين صداقات حتى في مجتمع منفتح، كما هو الحال في مصر”.

“من أصعب المواقف اللي أتعرض لها من بعض الزبائن اليمنيين (نساءً ورجالًا) نظرة الاستحقار؛ يحسسونك بأنّك شغَّالة عندهم

صدمات تنعكس على الشخصية

الأخصائية النفسية، عزة علي، تُفيد أن “الطفل، في السنوات الخمس الأولى من عمره، يتعلم أبجديات ونمط الحب من المربيين، ومن ثم يكبر، ويتعامل بها مع العالم الخارجي، ومن خلالها، تتحدد اختياراته وقراراته في الحياة، والطريقة التي يرى بها نفسه”.

وتوضح عزة: “صدمات الطفولة التي تحدث؛ كالهجر، أو الفَقد، أو التوبيخ، أو الإساءة بأنواعها، أو التفكك والعنف الأسري، أو غياب أحد المربيين، أشياء لها أثر كبير في بلورة شخصية الطفل، وفهمه، وتقديره لذاته، وبالتالي اختياراته وقراراته المتعلقة بالعالم الخارجي، وهذا ما يمكنه أن يفسر حالة الانغلاق لدى نسيم”.

“صدمات الطفولة التي تحدث؛ كالهجر، أو الفَقد، أو التوبيخ، أو الإساءة بأنواعها، أو التفكك والعنف الأسري، أو غياب أحد المربيين، أشياء لها أثر كبير في بلورة شخصية الطفل، وفهمه، وتقديره لذاته

تمكنت نسيم، من خلال حبِّها لعملها، أن تتقنه وتتميز فيه، بحسب مدير المطعم الذي تعمل لديه، “نسيم تعتبر الموظفة المتميزة بين زملائها؛ من خلال أدائها الوظيفي، وأخلاقها، وانضباطها، وكفاءتها، ومقدرتها على تحمل المسؤولية في العمل”.

ويضيف: “هي الموظفة الوحيدة الأنثى لدينا، ولأنّها جيدة في التعامل مع ضغوط العمل، ومشكلاته الصغيرة ضمن الفريق؛ بدأت تتحسن في بناء علاقات عمل جيدة مع فريق العمل”.

تفخر نسيم بعملها الذي مكنها من تحقيق ذاتها، “حبِّي لعملي أكسبني ثقة بنفسي، وصقل شخصيتي. أنا لا أخجل من عملي، على العكس، فخورة جدًا بذاتي، وبالمهنة التي أخرجتني من الظلمات إلى النور”.

*تنشر هذه المادة بالتزامن مع منصة هودج.

مقالات ذات صلة