الفضول.. المُعارض المُبتهج
تعز/ بلال الطيب
(المُناضل، الشَاعر، السِياسي) صفات دائمًا ما تقترن باسم عبدالله عبد الوهاب نعمان، وما يجهله كثيرون وجود صفة – سُلطة – رابعة لا تقل شأنًا عن سابقاتها، برز اسمه كـصحفي وهو في العشرينيات من عمره، وعلى صدر (صوت اليمن) – صحيفة الأحرار بعدن – قارع الطغيان بقلمه، وانتصر للإنسان بفكره، وهو بشهادة كثيرين كاتب صحفي من الطراز الأول، استطاع خلال فترة وجيزة أنْ يحجز لنفسه مساحة كبيرة في بلاط صاحبة الجلالة.
حلَّ العام 1948م بمآسيه الثقال، قضى الإمام الطاغية أحمد يحيى حميد الدين على الثورة والثوار، كان عبدالوهاب نُعمان – والد عبدالله – أحد أبرز شهداءها، لم يستسلم الشاب الطموح لخمول اليأس والإحباط، تغلب على أحزانه، وأثبت للظالم أنَّه قادر على الثأر والمواجهة، وأصدر مع نهاية ذلك العام صحيفته (الفضول)، متأثرا بـ (حلف الفضول) ناصر المظلومين في الجاهلية، مؤكدًا – بها ومن خلالها – أنَّ أكبر معارضة لأي طاغية هي أنْ تقرر أنْ تبتهج.
(الفضول)
صحيفة سياسية مُستقلة لم ترتبط بأي مُنظمة سياسية، وهي أول صحيفة ساخرة في اليمن وشبه الجزيرة العربية، والثانية على مُستوى الوطن العربي بعد (أبو نظارة) المصرية، وكان الأستاذ عبدالله عبدالوهاب نعمان رئيس تحريرها، ومحررها، وكل شيء فيها، وحقيبته التي يحملها في يده مقرها الدائم، والمُتنقل، ومنذ ذلك الحين طغى اسم الصحيفة على اسم الصحفي، وصار يُعرف بـ (الفضول).
أخبـار الصحيفة كانت قصيرة جدًا، وتحمل روح النُكتة والنقد اللاذع، وقد تبنى الفضول من خلالها تعرية كل ما هو سلبي في المملكة المتوكلية اليمنية، وكانت مصادره: (مصدر مربوط، أو ما يكذبش، أو برضه مُش كذاب).
أبلغه مصدره المربوط ذات فضول، بأنَّ عُكفي سقط بسبب وعورة الطريق من فوق ظهر حمار، وهو في مأمورية بإحدى قرى جبل حبشي في محافظة تعز، وبمانشيت عريض تصدر رأس الصفحة الأولى، جاء عنوان ذاك الخبر: (انقلاب عسكري شمال اليمن)؛ الأمر الذي جعل القراء يتهافتون على شراء ذلك العدد، ليكتشفوا في الأخير أنهم وقعوا ضحية مَقلب فُضولي لا ولن يُنسى.كان للصحيفة مُراسلين ما أنزل الله بهم من سلطان، وخبر اكتشاف الطاقة الذرية بذمار جاء عبر مُراسل يُـدعى (ولد اللعينة)، ومضمون الخبر أنَّ الدكتور مُقبل قُسامي – رئيس قسم الأبحاث البيولوجية في جامعة الملوج – استيقظ ذات صباح باحثًا عن كسرة خبز خبأها قبل نومه، وقد وجد الطاقة التي وضعها فيها مملوءة بالذَرَّة، اسرع من فوره إلى رئيس البلدية ليخبره باكتشافه للطاقة الذَرَّية، وأنَّه بلا صَبُوح نتيجة هذا الاكتشاف الخطير، وقد خرج قُسامي محفوفًا بالتكريم، ومحمولًا على أقدام العساكر، ولا يزال حتى اللحظة بلا صَبُوح.
(فضول القراء.. وقراء الفضول..)
مساحة تواصل ثابتة بين الصحيفة وقرائها، وهي الفكرة التي استمرت خلال السنة الأولى من عمر الصحيفة، وكانت الرسائل صغيرة، والردود الفضولية ساخرة جدًا. بعث أحدهم: «أريد أنْ أستمر مُشتركًا في جريدتكم، بشرط ألا أدفع الاشتراك، ويكفيكم أجرًا أنَّكم ستضحكوني لوجه الله»، فرد عليه: «عال جدًا، ومعنى هذا أنَّ اشتراكك سيكون مثل اشتراك بلادنا في الجامعة العربية.. تَشرفنا!!».
وتحت نافذة (مالم يزر سلّة المهملات) وصلت رسالة من يمني يقيم في أوغندا، يسأل فيها إن كان هناك لاجئون سياسيون من عدن قد لجأوا في الأيام الأخيرة إلى شمال الوطن، فكان رد الفضول: «لا نعرف أنَّ في اليمن لاجئين سياسيين من عدن، إلا أنْ يكون مُوزع الفضول الذي ذهب إليها منذ شهر ولم يعد»، وكانت أخبار ذلك الموزع قد انقطعت بالفعل اثناء توجهه إلى شمال اليمن.
(بين المطرقة والسندان)
نافذة فضولية دائمة، وقد كتب الفضول في العدد 157 وفي ذات النافذة ما نصه: «قرأت هذا الأسبوع جريدة أسياد اليمن التي يسمونها “النصر”، وكان مما قرأته خطبة لأحد هؤلاء الأسياد في الجيش المظفر – على حد تعبير الصحيفة – يقول فيها لمُستمعيه، ويقسم بالله العظيم على صدق قوله، بأنَّ هذا الجيش – يعني عساكر الضرائب في اليمن – هو أفضل جيش في العالم، وأنَّه هو الجيش النبوي».
وعلق الفضول ساخرًا: «وأنا لا أفهم إطلاقًا علاقة النبوة بقطعان من الحفاة العراة الجهلة الجياع السلاليين، يعيشون طيلة أيام العام في بيوت الشعب، بين العجائز والنساء، يقاسموهن اللقمة والجرعة بصورة تلعنها الرجولة والإنسانية، ويسوقوهن أمامهم ليسددن ضرائب هذا السيد الفصيح، كما لو كُنّ أسيرات حرب ضروس.. لا أفهم أنْ يكون هذا جيشًا نبويًا إلا أنْ يكون هذا السيد الفصيح قد قرر – لتصحيح التسمية – أنْ يدعي بأنَّه نبي!!».
وتحت نافذة (من المنبر) كتب الفضول في ذات العدد: «الحمد لله المعبود المقصود، الصابر علي اليمن من طغيانٍ موجود، طغيان جعلها كالبحر الممدود، الداخل فيها مفقود، والخارج منها مولود، والعائش فيها دود على عود.. نشكره جل شأنه على بختنا العجيب، عدد ما غرَّد العكفة، أو برطعت بغلة النقيب.. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، الذي لعن في شريعته الظلم والظالمين، وعلى آله الذين ساروا على خلقه القويم، أما الذين به تسلبطوا، وفي سلوكهم تلخبطوا، وفرضوا أنفسهم وتسلطوا، فلا صلاة عليهم ولا تسليم..».
الفضول الشاعر برز أيضاً، وظهرت قصائده الساخرة بلغة دارجة غالبًا، وبأسماء مستعارة أحيانًا، وحين قامت الأيادي العابثة بالاعتداء عليه بالضرب، وذلك بإيعاز من الإمام الطاغية أحمد يحيى حميد الدين، كتب مُساجلة شعرية طويلة، قدم لها بالقول: «انهالت علينا كثير من التعازي على جبهتنا، وفيما يلي رسالة بعثها زميلنا في الشعافة»:
ظلموك إذ خبطوك يا زنعير
ظفروك يا صعلوك حين تهور
وستقبلوك بما لقيت تحية
تركتك فوق الرصدتين تدور
وختام هذا فاستمع لنصيحتي
وضع اللجام كأنك الحمرير
وأضاف: «وقد اهتزت معاطفنا لهذا المدح، وارتعشت مشافرنا بهذه القصيدة»:
أحسنت فيما قلت يا شعرور
يا أيها العلامة البعرور
كيف السبيل إلى السكوت وإنني
مرح وإهمال الفضول عسير
كم نكتة جاء الفضول بها لها
ضحك الطفير وكعكع المبطير
ولا أروع من قصيدة (هذي المساواة) التي نُشرت في العدد الأخير أكتوبر 1953م، باسم امرئ القيد، وتحدثت بلسان الإمام الطاغية، وصورت حال الشعب في ظل حكمه الكارثي، وفيها قال:
شعب بحمد الله يمشي للـورى
لحف التراب وبالحصير تأزرا
أدبته بالفقر حتى يرعـــوي
وحملته بالجوع كي لا يبـطرا
ومشيت فوق ضلوعه مترفقـًا
وملئت أكواخ العجائز عسكرا
وجلدت ظهر أبيه حتى لم يقم
أحدا لينطق أو يحرك مشفــرا
فكفيته تعـب الحياة فلم يعـد
أبدًا بتدبيـر الحياة مُفكرا
ساويت بينهموا بفقر ساحـق
بُطحوا سواسية به فوق الثرى
قسمًا بظلمة كل سجن لن يرى
أحد لهذا الشعــب إلا ما أرى
إنْ القيود أو اللحود وقايــة
ممــن يحاول فيه أنْ يتعنتــرا
شعبي العزيز.. وقيت من حرية
ووقتك حيطـان السجـون تحررا
ارقد ونم واهنأ ودم في نوم أهـــل
الكهف في وحل الشقاء مُسمرا
ثم الصـــلاة على النبي وآله
ما رنّ قيد في السجـون وصرصرا
كانت (الفضول) الصحيفة الصوت الأوحد الذي يقارع الطغيان الإمامي، بعد توقف صحيفة (صوت اليمن) طبعًا، ودخول الأحرار مرحلة الصمت وخيبة الأمل، وتفرقهم بين السجون والمنافي، وفي ذلك قال الشاعر أحمد الشامي يشد على قلم الفضول الصحفي:
أدرها على الطغيان كالنار تفرم
مساعد حرب تتقيها جهنم
وجلجل بها بالكون صرخة ثائر
تهز كيان المستبد وتهدم
وأسمع حماة العناد أصوات أمة
يكممها الظلم العسوف ويلجم
وسر حاملًا نور الفضول أشعة
تنير لنا النهج القديم وترسم
كانت افتتاحيات (الفضول) – في الغالب – خالية من التندر والسخرية، ناقش فيها عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) قضايا الوطن والأمة، وكان دائمًا ما يقدم حلوله الناجعة لكل مُشكلة، وجاء في افتتاحية العدد الثاني من السنة الثانية ما نصه: «الأمة التي لا تعتمد على جهدها الخالص في إنعاش نفسها، وعلاج أدوائها، وتنتظر من الزمن أنْ يتصدق عليها لمشاكلها بالحلول، هي أمة لا تستحق الحياة، ولن تكتب لها الحياة إلا إذا أورقت عيدان النعوش»، فهل هناك أصدق من هكذا توصيف؟
بعد خمس سنوات و157 عددًا توقفت (الفضول) الصحيفة، رفض الإنجليز تجديد تصريحها بتحريض من الإمام أحمد، إلا أنَّ ذلك لم يُثني الفضول الصحفي عن مواصلة مشواره النضالي، وفضح وتعرية نظام الأئمة الفاسد، وبتوقيع (يمني بلا مأوى) استمرت مقالاته تُنشر في صحيفة (فتاة الجزيرة)، وفي صحيفة (الكفاح) حرر صفحة اسماها (البسباس).
نادرًا ما تُكلل الجُهـود الفردية بالنجاح، وحدهم العظماء يستطيعون ذلك، حينها يلجون التاريخ من أوسع أبوابه، وما الأستاذ عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) إلا واحدٌ من هؤلاء، هو رجل بأمه، ماضيه النضالي حافل بالتميز والتفرد والشمول، ويحتاج لمزيد من التنقيب والدراسة، خدمة للأجيال المُتعطشة، وحق لليمن وأبناء تعز بالذات أنْ يفخروا بهذا العِملاق، والظاهرة الإبداعية التي لا تتكرر.
ذات عدد فُضولي كتب محمد علي لقمان مقال احتفائي بـ (الفضول) الصحيفة، ومن ضمن ما جاء فيه: «نحن شعب يحتاج للفكاهة، عابِسون ومن حقنا أن نَضحك»، والآن وبعد مرور أكثر من 65 عامًا، نُعيد ذات الطلب، ولكن في المُقابل: من يُعيد لنا مَجدَّ الفُضول؟!