اليمن.. التسول بأيادي ناعمة
تعز- هيفاء المذحجي
منذ بداية صباح يومٍ جديد وأنت تتجول في شوارع وأحياء مدينة تعز، يقع نظرك على العديد من النساء يتجمعنّ على حافة الأرصفة أو أمام بوابات المطاعم والأماكن الأخرى العامة، يتسوّلنَّ الناس أموالهم، بطرق مختلفة وأساليب متعددة، بغية الحصول على المال دون جهدٍ أو عناء، وبأياديٍ ناعمة، دون وضع اعتبار للمخاطر التي قد يتعرضنّ لها.
هذه الظاهرة ليست حديثة في المجتمع اليمني، إذ كانت قد انتشرت قبل اندلاع الحرب في اليمن مطلع العام 2015، لكنها توسعت بشكل كبير وارتفع معدلها خصوصًا في أوساط النساء، أعقاب الحرب التي أفقدت الكثير من الناس وظائفهم وأعمالهم ومصادر دخلهم، إضافةً إلى البطالة وتوسع دائرة الفقر، مما جعلهم يضطرون للخروج إلى الشارع، للبحث عمّا يسد رمق جوعهنّ وعائلاتهنّ، فيما هناك من اعتاد على ممارستها كمهنة.
“البحث عن القوت المسلوب”
كريمة “اسم مستعار” (30 عامًا)، أحد المتسولات التي تجوب شوارع وأزقة المدينة طوال اليوم بين حرارة الشمس واكتضاض الشارع بالمارة والمركبات، تتنقل من مركبة لأخرى، ومن شارع لآخر، تدلي يدها لكل شخص تمر بجانبه أو يمر بجانبها، وترتجيه بضع قروش، تخرج صباح كل يوم وتستمر على هذا المنوال، تراكةً أطفالها الأربعة وحيدون بالمنزل، وتعود لهم مساءً بالطعام.
“الحاجة والجوع هي من أجبرتني على الخروج ومد يدي للناس، زوجي يعمل باليومية ويحصل على أجر زهيد للغاية، لايكفي لمصاريف أطفالي ومدارسهم والطعام وايجار المنزل في ظل تدهور الأوضاع المعيشية والغلاء الفاحش، بالإضافة إلى وجود أمي المريضة والتي تحتاج لمصاريف العلاج والايواء”، هكذا تعلل كريمة سبب ممارستها للتسوّل.
“الحاجة والجوع هي من أجبرتني على الخروج ومد يدي للناس، زوجي يعمل باليومية ويحصل على أجر زهيد للغاية، لايكفي لمصاريف أطفالي ومدارسهم والطعام وايجار المنزل في ظل تدهور الأوضاع المعيشية والغلاء الفاحش، بالإضافة إلى وجود أمي المريضة والتي تحتاج لمصاريف العلاج والايواء”
وتقول إن المبلغ الذي تحصل عليه من التسوّل أكثر بكثير من أجر زوجها في عمله، وهي من تقوم بتحمل مسؤولية الصرف على المنزل وإطعام الأطفال، وهذا مايسبب الكثير من المشاكل الأسرية بينهم، وتشير كريمة بأنه لولا عملها في التسوّل لماتوا أطفالها جوعًا حد وصفه.
وتستطرد كريمة بالحديث عن صعوبة عملها في فترة تفشي فيروس كورونا كوفيد-19، مُجسدةً حجم المعاناة التي لاقتها، واصفةً إياها بالمتضاعفة، إذ طبيعة عملها واحتكاكها بالكثير من الناس والمارة كان يوجّسها كثيرًا من الإصابة بالفيروس أو نقله لأطفالها ووالدتها المريضة، بالإضافة إلى ملامستها للنقود التي تحصل عليها، حيث قد تكون عالقةً بعدوى الكوفيد.
عنفٌ واستغلالٌ وأكثر
بكل الأحوال لا تخلو ظاهرة التسوّل من المخاطر على الأفراد الذين يمارسونها وخصوصًا فئة النساء المتسوّلات، إذ قد تكون هذه المخاطر آنية تتمثل في حصول أضرارًا مباشرة للمتسوّل؛ نتيجة الحوادث أو الصدمات التي يتعرضون لها، وهناك أيضًا مخاطر أخرى مثل، التعرض للتحرش والاستغلال الجنسي والجسدي للنساء المتسوّلات، بالإضافة إلى الآثار النفسية والاجتماعية ونظرة المجتمع القاصرة للمرأة المتسوّلة.
وهنا تتابع كريمة القول بأنها تتعرض وزميلاتها أيضًا، للكثير من المضايقات والانتهاكات أثناء ممارستهنّ التسوّل، سواءً، بالسب و الشتم أو التحرش اللفظي وأحيانًا الجسدي في الشوارع وأسواق القات خصوصًا، وغيرها من بقية الأماكن، “أني أعاني وأتعرض لمشاكل ومخاطر كثيرة، لكن مضطرة لمواجهة كل هذه المعاناة؛ لأننا لا نمتلك مصدر دخل آخر يسد رمق جوعنا” تضيف كريمة.
حول هذا الخصوص، يقول دكتور علم الاجتماع في جامعة تعز، ياسر الصلوي، إن المجتمع اليمني بطبيعته محافظ وتقليدي وتختلف نظرته للمرأة خصوصًا إن كانت متسوّلة، وبالتالي تجد نفسها وسط ضغوطات اجتماعية كبيرة، بسبب نظرة الآخرين لها والتقليل من إحترامها، بالإضافة إلى تعرضها للكثير من المضايقات والتحرش و العنف بجميع أشكالة، ولذلك يعتبر التسوّل سببًا من أسباب ارتفاع معدل العنف ضد المرأة في المجتمع.
ويوضح الصلوي بأن معالجة التسوّل تبدأ بشكل أساسي بتوقف الحرب في البلاد، وهذا مايعزز بدروه قدرات الاقتصاد الوطني الذي يساعد على التخفيف من الفقر والبطاله، وبالتالي الحد من هذه الظاهرة، وعمل دورات إعاده تأهيل نفسي واجتماعي للمتسوّلين من قبل مؤسسات الرعاية الاجتماعية والعمل على دمجهم في المجتمع، إلى جانب تدريبهم على حرف ومهارات تساعدهم في كسب لقمة العيش، مشيرًا إلى صعوبة معالجة هذه الظاهرة في ظل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الحاصل الآن.
قانونًا.. من المسؤول؟!
تبيّن أن هناك العديد من العوامل والأسباب التي تقف خلف انتشار ظاهرة التسوّل بشكل لافت في المجتمع اليمني، وتتعدد الدوافع وتختلف بحسب الواقع المعاش ومتغيراته، فهناك من أُجبر عن ممارستها وهناك من عمّد لذلك، وعند النظر للأمر بوجهةٍ قانونية، نجد القانون يُجرم ممارسة التسوّل.
حيث تنص المادة رقم 203، من قانون الجرائم والعقوبات،” يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر من اعتاد ممارسة التسوّل في أي مكان، وسنة إذا اصطحب طفل صغير” لكن يشترط القانون في هذا العقوبة، “…إذا كان لديه أو في إمكانه الحصول على وسائل مشروعة للعيش”، وعند التوقف هنا، نجد بعض المتسوّلين يبررون ممارستهم لهذه الظاهرة بسبب الحاجة والفقر المدقع وسوء الأحوال المعيشية في بالبلاد نتيجة استمرار الحرب وانعدام مصادر العيش.
” يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر من اعتاد ممارسة التسوّل في أي مكان، وسنة إذا اصطحب طفل صغير” لكن يشترط القانون في هذا العقوبة “
وفي هذا الصدد، يرى المحامي والمستشار القانوني، ياسر المليكي بأن الدولة مسؤولة ومعنيّة بالرعاية الاجتماعية والصحية للمتسوّلين وخاصة النساء وتوفير الوظائف وفرص الضمان الاجتماعي وتحسين الأوضاع المعيشية، مشيرًا أن هناك قانون الرعاية الاجتماعية في الدستور اليمني، يُلزم الدولة على تقديم مساعدات للفقراء والمحتاجين وكثير من الفئات وخاصة النساء الغير قادرات على إعالة أنفسهن.
يتضاعف الرقم
إلى غاية الآن ليس هناك الكثير من الدراسات والاحصائيات الدقيقة لعدد المتسوّلين في اليمن ولا دراسات اجتماعية ونفسية لظروفهم الإنسانية والآثار التي يتعرضون لها، وأيضًا الدوافع الحقيقية لانخراطهم في هذا النشاط، لكن أثناء بحثنا الموسع رصدنا دراسة قديمة لمركز الدراسات الاجتماعية وبحوث العمل، كانت قد صدرت عام 2009.
وبحسب تلك الدارسة، فإن عدد المتسوّلين في اليمن يقدر بنحو مليون ونصف المليون متسوّل، وتشير الأبحاث إلى تضاعف ذلك الرقم بانضمام حوالى مليون شخص إلى عداد المتسوّلين نتيجة الحرب، وسوء الأوضاع، وتدهور العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، ما تسبب في غلاء مهول في أسعار المواد الغذائية، وبالتالي ارتفاع منسوب التكاليف المعيشية.
عدد المتسوّلين في اليمن يقدر بنحو مليون ونصف المليون متسوّل، وتشير الأبحاث إلى تضاعف ذلك الرقم بانضمام حوالى مليون شخص إلى عداد المتسوّلين نتيجة الحرب،
وتصف الأمم المتحدة في تقاريرها الأزمة اليمنية، بالأسوأ في العالم على الإطلاق، ووفقًا لمكتب الشؤون الإنسانية التابع لها في اليمن “أوتشا”، فإن هناك 21 مليون يمني من أصل 26 مليون يشكلون تعداد سكان البلد المنهك بالصراعات، يحتاجون إلى مساعدات انسانية، منهم 17 مليونًا يجب توفير مساعدات غذائية ملحة وعاجلة؛ لتجنيبهم الجوع.
” تم نشر هذا التقرير بدعم من JDH / JHR – صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا “